أثر الفراشة" لا يموت
2008-08-21 21:58:09

ما كنْتُ في الوطنِ. اتّصلْتُ، فقيلَ لِي: درويشُ ماتْ./ لا. قلْتُ: لا، "أثرُ الفراشةِ" لا يموتْ./ يبقى على حجرٍ على قيدِ الحياةْ./ "أثرُ الفراشةِ" لا يموتْ.

****
الجمعة، 8 آب 2008، ظهرًا، تحطّ "طائرتي" على مدرج مطار ليخ فالينسا في مدينة غْدانسك القائمة القاعدة عند البلطيق. مضيفايَ البولونيّان، ميلكا وَيان، ينتظراني في صالة الوافدين. بعد ساعتين إلاّ قليلاً، نصل قرية دوبروفا: بيوت قليلة متناثرة في مزارع يربّون فيها، إضافة إلى نبات الفرح، قمحًا وذرةً وشعيرًا وبطاطا. يعتقد البولنديّون أنّهم هم، لا سواهم، آباء الفودكا الشّرعيّون، فيرتكبون زراعة البطاطا. وللحقّ، لفودكاهم نكهة لا تباريها إلاّ تيكيلا المكسيك.
****
بيت خشبيّ جميل، منزّه عن البلازما السّائلة من الشّاشتين لغرض في نفس شيطان الشّعر، يتوسّط غابة كثيفة من أشجار كأنّها تحاول تعسيف سقف السّماء من شعشبون الحضارات، لم أعرف منها إلاّ الملّ والسّرو والصّنوبر، لكنّي أعرف أنّها تكفي جوع الجليل إلى فاكهة الشّتاء حتّى القيامة، تكاد تصغي، في الغابة، إلى صمت مطبق لولا معاكسة الرّيح لأوراق الشّجر أو جرأة المطر على نوافذ عارية من السّتائر.
****
إضافة إلى هديّة متواضعة للمضيفين (غير منزوعة النّيكوتين والغلوكوز والكحول)، "أثر الفراشة"، آخر أعمال محمود درويش المنشورة كتابًا، كان الشّيء الوحيد بالعربيّة الّذي يستوطن حقيبة الكتف. قرأته قبل السّفر، غير أنّ "يدًا ما إلهيّة" أومأت إليه. السّبت، 9 آب 2008، عصرًا، صدفة، تكاد تلامس النّبوءة ربّما، تقودني إلى قصيدة "إجازة قصيرة" (ص 181)، مطلعها: "صدّقْتُ أنّي مِتُّ يومَ السّبتِ،/ قلتُ: عليَّ أن أوصي بشيءٍ ما/ فلم أعثرْ على شيءٍ..."، أترجمها لمضيفيَّ على ضفاف قهوة "عربيّة" نسيت أن أصطحبها من البيت، مستجيرًا بنسكافيه دون مبيّضات وقليل من سكّر خوف أن ينفد، لئلاّ أضطرّ للمشي، على ساقين تعتنقان الكولسترول، مسافة كيلومترين، أو أكثر، حيث دكّان قرويّ ذكّرني بدكّان أبي في قصبة حرفيش. 
****
صباح الأحد، 10 آب 2008، أفتح عجفوني لأجد مكالمات تنتظر معاودة الاتّصال، إحداها من الصّديق الشّاعر مالك صلالحة. اتّصلت بأبي حسين، ولم يكن يعرف أنّي خارج البلاد، ليخبرني برحيل محمود درويش. وقبل أن أنهي المكالمة، كان تنبّه المضيفان إلى ما أصابني من ذهول مصحوب بدمعة حقيقيّة. لم يتمالكا وصارا يحثّاني على الإدلاء بما عندي. قلت: هل تذكران القصيدة الّتي قرأت لكم يوم أمس؟ فقالت ميلكا: "القصيدة عن موته يوم السّبت؟". قلت: نعم، صدقت نبوءته. وأجهشت بالبكاء.
****
الأربعاء، 13 آب 2008، مساءً، فراشة خضراء جدًّا، قالت ميلكا، وهي عاشقة للفراش، إنّها لم تَرَ مثلها من قبل، تحطّ على كتاب "أثر الفراشة" الموضوع على المنضدة في المطبخ. ولأنّي كنت، في ما سبق، حدّثت مضيفيّ عن التّقمّص، فقالت ميلكا: قد تكون الفراشة روح ديرفيش جاءت تشاركنا هذا النّبيذ. ولأنّي كنت حدّثتهم عن أهمّيّة هذا الشّاعر وعن رحيله المباغت، قال يان: لكنّه رحل في عزّ قمّته.
****
محمودْ درويشْ/ علِّمْني كيفَ يكونُ الشِّعرُ خفيفًا مثلَ النّثرِ، وكيفَ يكونُ النّثرُ حفيفًا مثلَ الشِّعرِ، وتختلطُ الأجناسْ/ علِّمني كيفَ يموتُ الشّاعرُ يومَ السّبتِ، وتنحبسُ الأنفاسُ، تمامًا مثلَ نبوءتِهِ./ وقصيدتُهُ تبقى أثرًا لفراشةِ حبٍّ. تنغلقُ الأقواسُ قليلاً. تنفتحُ الأقواسْ/ علِّمني كيف يكونُ الشِّعرُ بسيطًا مثلَ الرِّيحِ، عميقًا مثلَ البحرِ، جليًّا مثلَ الموتِ، خجولاً مثلَ نبيذٍ يسكرُ كلَّ النّاسْ. علِّمْني....
****
محمود درويش. الآن. هناك. يحتلُّ جناحًا خاصًّا بالشّهداء والشّعراء، في فندقٍ فردوسيٍّ فاخر بثمانٍ وأربعينَ نجمةً على ضفافِ بحيرةِ الحضور والغياب الماكثة، هناك، في أعالي القصيدة. أرى إليه يردُّ على السّؤال: "كيف تكتبُني؟"
****
"كيف تكتبُني؟"،/ سألتْهُ القصيدةُ ذاتَ مساءْ./ قالَ: تأتينَ حُلْمًا نقيًّا بلونِ السّماءْ/ في سريرٍ حريرٍ يراودُ طفلَ النّعاسِ: أراكِ غمامةَ عطرٍ بطعمِ النّهارِ، فراشةَ عشقٍ تتمتمُ، نحلةَ شوقٍ تترجمُ، ضَوءًا نبيًّا، قصيدةَ ثلجٍ على شاطئِ الشّمسِ. لكِنَّني لا ألاقي إلى البحرِ دربًا حريرًا، إلى الحربِ ثوبًا حديدًا، أعيدُكِ حبرًا بلونِ السّماءْ.
****
قبل محمود درويش، غادرت، من متردّمٍ، سلالة من مبدعين طيّبين (غسّان كنفاني، توفيق زيّاد، إميل حبيبي، نزار قبّاني، إدوارد سعيد، محمّد الماغوط)، والقائمة طويلة كليلنا العربيّ الطّويل. غير أنّ لرحيل محمود درويش، هذا الشّاعر الجميل جدًّا والفلسطينيّ جدًّا والعربيّ جدًّا والعالميّ جدًّا، لرحيله السّابق لأوانه بكلّ المقاييس، حرقة خاصّة جدًّا، لا يضاهيها إلاّ رحيل الأنبياء والقدّيسين. فلتغفري لي زلّتي، يا أمّنا الأرض. ولتغفري لي خطيئتي، يا خالتنا السّماء.
****
"على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياةَ" جنونًا جميل/ بظلِّكَ يا أيّها الشّاعرُ المستحيل.
****
محمود درويش، لو قيّض للمؤرّخين الجدد للأدب العربيّ، منذ دارة جلجل حتّى حارة آل درويش في البروة ومرورًا بحيفا وبيروت ورام الله، لو قُيّض لهم أن يعيدوا ترتيب دفاتر أيّامنا وملفّات أحلامنا، لَما تردّدوا، لرفّة جفن فراشة، في أن يطلقوا على عصرنا الأدبيّ الرّاهن تسمية: العصر الدّرويشيّ.
****
كم أردتُ، هنا أو هناكْ،/ أن أراكْ./ غيرَ أنّيَ كنتُ هنا. وهناكْ،/ كنتَ. لا. أنتَ ما زلتَ أنتَ، هنا وهناكْ،/ سيّدَ القافلَهْ./ سبعةٌ بعدَ ستّينَ مرَّتْ كما خبرٌ عاجلٌ سالَ من غيمةٍ ماحلَهْ،/ يعلنُ الآنَ عن موعدِ الآجلَهْ./ بغتةً قالَتِ القابلَهْ:/ كُلُّ ظلٍّ على الأرضِ كانَ طويلاً قصيرُ الحياةْ./ ثمَّ قاطعَها ظلُّ مَنْ يعشقُ الأرضَ: لكن، "على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياةْ".
 
(*) مقاطع من مداخلة الشّاعر تركي عامر، ألقاها خلال أمسية إيقاد شموع لذكرى الشّاعر الكبير محمود درويش، عُقدت في بيت الكاتب أمين خير الدّين (حرفيش، الأربعاء، 20 آب 2008)، أدارها الأديب الدّكتور بطرس دلّة، بحضور عشرات الأصدقاء من حرفيش وبيت جنّ والرّامة وعين الأسد والمغار والبقيعة وكفرسميع ويانوح ومعليا وكفرياسيف وأبوسنان ويركا وعسفيا. وكان شارك فيها بتقديم المداخلات، إضافة إلى العريف والمضيف، كلّ من (مع حفظ الألقاب): نايف سليم، محمّد نفّاع، سليم مخّولي، نور عامر، كمال ابراهيم، مالك صلالحة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق