سامحيني حبيبتي / تغريد حبيب دير حنا
2011-08-10 14:29:56

افترشا عشب الربيع وكان الليل قد أرخى سدوله، نظرا لمرآة السماء العظيمة وشاهدا الأرض من حولهما نجوما وقمرا وهما يستلقيان بين بسمات تلك النجوم .
تسامرا وكان الربيع بنسائمه اللطيفة ينصت لحديثيهما نظر إلى وجهها الذي يشع بملامح الطفولة والبراءة وهمس:سأحبّك لآخر العمر وسأفعل كل ما بوسعي لإسعادك حبيبتي ...
نظرت إلى دوائر عينيه التي اختلطت بلون الليل تبحث عن صدق الكلمات فتثق به أكثر أخيرا ستضحك لها الأيام ويقدّر لها أن تقترن بشخص يحبها بصدق وإخلاص هذا الشيء الأخير الذي أصبح وجوده نادرا في الوجود...
أجابته بصوتها الرقيق الهادئ :وأنا سأحبك دوما فأنت كل حلاوة في حياتي .


صمتت مع صمت الليل وتذكرت لبضع لحظات الظلم الذي لاقته في بيت يخلو من كل شيء ما عدا القسوة حتى دعته سجنا أب ظالم وأخوة طغاة ظنّهم، كل ظنهم أن الفتاة عالة وعبئاً يجب التخلص منه وتزويجها مبكرا وهي كورقة خريف ضعيفة تحملها الرياح، تقودها شمالا وجنوبا دون أن تبدي رأيها بشيء حتى بهذا الزواج فعقدت الصفقة مع والدها دون علمها دفع له مبلغا من المال ليكون المقدّم وتزوجت من رجل يكبرها خمسة عشر عاما وهي ما زالت في السابعة عشر ربيعا فحتى تعليمها الثانوي لم يكن لها الحق بإتمامه ولم يكن منها سوى الطاعة العمياء وها هي تمضي الأيام الأولى من زواجها في إحدى الفنادق .
كانت الأيام السعيدة تمر مسرعة كأنها قطرات ماء دافئة تنساب من بين أناملها الرقيقة وهي لا تصدق أن من حقها أن تحياها .....
وأما زوجها فقد منحها كل الحب والعطف غمرها بكلمات اللطف والحنان وعندما كان ينهي عمله في رصف الطرقات يسرع بالعودة لبيته ولزوجته بكل شوق . وبادرته بنفس الحب لا بل وأكثر وازدادت تعلقا به .
وبعد مرور الربيع والصيف جاء الخريف ليسدل ستائره الرمادية الصفراء ويعلن عن انتهاء مسرحية السعادة هذه بدأ الزوج يتغيب عن البيت لسبب أو من دون سبب وفي الآونة الأخيرة ازداد حديثه بهاتفه الخلوي وكلما حاولت الاتصال به وجدت هاتفه مشغولا شيئا فشيئا شعرت أن عواطفه تفتر نحوها حتى لم تعد تسمع منه كلمة طيبة فكرت أن تتودد له أكثر علَّها هي المذنبة فازداد جفاء وبعدا واستبدّ البؤس بقلبها لكنها فكرت أن تفعل كل ما بوسعها لتقي زواجها من الانهيار لأن حياتها لا تعني لها شيئا سوى هذا الزواج . احتارت في أمر حبيبها ما الذي بدَّل أحواله !؟
استمرت أيام الخريف على هذا الحال حتى بدأ البرد يضع بصماته على الأرض والبيوت منعت الأمطار والعواصف خروج زوجها من البيت مما اضّطره ألا يتركها وحيدة لساعات طويلة فأسعدها ذلك وهي التي لم تطق أن يبتعد عنها لحظة واحدة.
كانت الأرض تستوعب غضب الأمطار بصمت وقفت تعدّ له الفطور وهي تشعر بالسعادة فمنذ مدة لم يجلسا معا لتناول الطعام.
أسرعت إلى غرفة النوم التي تختبئ في نهاية ممر في البيت خلف جدران ضمت حبهما المقدس سارت بخطوات خفيفة حتى لا تزعجه بل أرادت أن توقظه بكلمة حبيبي علّها تسعده وترضيه وما أن وصلت قرب مدخل الغرفة حتى سمعت زوجها الذي يعني لها كل السعادة والحياة يهمس لهاتفه بكلمات حب ..حبيبتي اشتقت إليك وهذا المطر اللعين جعلني أتأخر عن المجيء أعدك سنلتقي في نفس المكان غدا.
سقطت غمامة سوداء على عينيها وأفقدتها البصر للحظات تمزق القلب في صدرها كاد يغمى عليها إلا أنها تمالكت نفسها باتت الحقيقة واضحة أمام عينيها أن زوجها الذي لم تحب سواه بالرغم من فارق السنين بينهما وأعطته كل الحب والثقة ها هو يغدر بها بعد فترة لم تتجاوز سنة من زواجهما . لم تسأله يوما عن ماضيه شيئا ولم يسمح لها بالتعرف إليه قبل الزواج وها هي تكتشف خيانته عادت إلى غرفة الطعام تجرّ قدميها اللتين لا تقدران على حمل هذا الألم تذكرت أيام الظلم السابقة وأجهشت بالبكاء ما أقسى ما تعانيه اليوم! انه أكثر مرارة من كل قسوة مضت ألخيانة كأس مرة بل سم قاتل ها هي تتجرعه على مضض وأمام هذه الحقيقة المرة لا تريد أن تخسر زوجها ولا أن تعود أدراجها إلى عائلتها مطلّقة فتعيش في سجن داخل سجن آثرت أن تلزم الصمت كأنها لم تسمع شيئا وعاشت شهور الشتاء والبرد والحزن والخيبة يقرصان قلبها ويشنّجان فكرها حتى بدت كدمية دون مشاعر لا تأبه لخيانته التي تأكدت منها يوما بعد يوم وعاد الربيع يذكرها بيوم زواجهما وبوعوده بالحب والإخلاص جاءت إليه بلطف وقالت: مبروك حبيبي اليوم عيد زواجنا الأول وقد غاب هذا عن خاطره تماما تنبّه انه منذ مدة طويلة لم يقل لها كلمة حب وهي ما زالت تغمره بلطفها وحبها بالرغم من جفائه وجفافه نحوها وعلقت الكلمات بحلقه وبثّها أخيرا مبروك يا حبيبتي .
بالرغم من قلة صدق الكلمات إلا أنها ابتسمت وأشعت عيناها كأن غيوما زالت من سمائها ورضيت بحب يبدو لها زائفا أفضل من حياة دون حب تناول فطوره وغادر كعادته إلى العمل ، وقفت قرب المدخل تنظر إليه كأن عينيها ترجوانه أن لا يخون قلبا صدق دوما بحبه ورفعت له أدعية لعلَّ يد السماء تتناولها.
وما أن سار الزمن بضع ساعات حتى قرع الباب هرعت لتفتح ولم تعتد أن تستقبل زائرا في مثل هذا الوقت وهي الغريبة في حي وقرية لا تعرف بهما أحدا وإذ برجل نحيف يقف عند الباب يرتدي ملابس عمل ويظهر على وجهه الشحوب كان يحمل بعض أشياء تخص زوجها خاطبها قائلا هذه الأشياء لزوجك ..
ولم ينه كلماته حتى قاطعته مولولة صارخة وقد نسيت تعاليم نشأت عليها تمنع المرأة من الصراخ لكنها صرخت وللحظات ظنت أن حبيبها فارق الحياة .
- قل لي ماذا حدث لزوجي ؟
- سقطت آلة نعمل بها على قدميه فكسرتا ونقل إلى المشفى ...
ذهبت إليه وبقيت عند قدميه اللتين وضعتا داخل الجبص الأبيض ولم تفارقه لحظة بكت لألمه وسهرت قربه لأيام .وفي يوم عزفت فيه طيور الربيع أنغامها كانت تسهو لجانبه متكئة على كرسيّها فتنبّه لرنين هاتفه، أخذه وأجاب...نعم ... نعم لم استطع الحضور.... لقد كُسِرت ساقيّ وأنا بأسوأ حال... أنا في المشفى... سمعت الأطباء يتكلمون عن قلقهم لحدوث إعاقة في قدميّ لمدى الحياة ...
أنهى مكالمته القصيرة هامسا سنلتقي. ومرّت ثلاثة أسابيع ولم يعد يكلم فيها سوى إخوته وصديقه وأسابيع أخرى تمر فأدرك عندها أن صديقته لن تتصل بعد. أمّا زوجته ازدادت عطفا واعتناء به وجاء الطبيب ليخبره استنادا على صور الأشعة أن الكسر أحدث بعض الإعاقة في قدمه اليمنى، أي سيتعسر عليه السير بشكل صحيح مدى حياته . بكت زوجته وأما هو فنظر إليها وكان عطفها يحرق صدره ودموعها تزيده اشتعالا أراد أن يصرخ لا تبك فانا لا استحق تلك الدموع لا استحق عطفك وحبك وها أنا ألقى شر ما فعلته لكنه ابتلع الصراخ والأنات .
نعم انه يسير متكئا نحو قدمه اليسرى بعض الشيء، و قدمه تؤلمه أحيانا لكن قلبه عاد يحبها بصدق لم تعهده من قبل هذا الحب الذي كانت تنتظره بشوق .
وعندما اقبل عيد زواجهما الثاني أحب الزوج أن يعبر لزوجته عن امتنانه وتقديره لها فأخذها في أجمل أيام الربيع إلى ذات الفندق الذي قضيا فيه اسعد الأيام وعادا ليفترشا العشب الأخضر وبينما سكن الليل وهيمن الصفاء على النفوس شعر الزوج انه يريد أن يبوح لزوجته بسر جاثم على صدره كاد يخنقه جعل يحدثها بخجل عن علاقته القديمة بسيدة متزوجة التي ابتدأت قبل زواجه بها وبعد أن تزوجا ... قاطعته ولمست بيدها الناعمة شفتيه : أرجوك حبيبي لا تكمل ! نظرت إلى عينيه النادمتين، وتابعت، أنا اعرف كل شيء قبل شهور من عيد زواجنا الأول والآن دعنا نهنأ بعيدنا الثاني فلا يعكر صفونا شيء تأمل وجهها، ما زالت الطفولة تشع من عينيها، ولكن بدت له امرأة عظيمة، كم تحملت خيانته بصبر وصمت! وفوق هذا كله، لم تتخلَّ عنه لحظة واحدة في مرضه جرت بالمآقي الدموع وضمّها بقوة لصدره هامسا أرجوك سامحيني حبيبتي ابتسمت ودمعت عيناها فرحا به وقالت سامحتك! ولم احمل لك يوما في قلبي سوى الحب كل الحب.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق