"أحببتُ البرَّ وأبغضْتُ الإثم" ـ كتاب للأب إبراهيم داود
2014-09-22 08:59:52
"أحببتُ البرَّ وأبغضْتُ الإثم" ـ كتاب للأب إبراهيم داود
صدر، مؤخرا، كتاب يحمل عنوان "أحببتُ البرَّ وأبغضْتُ الإثم ـ مقالات دينية واجتماعية وسياسية" لقدس الأب إبراهيم داود، المهجَّر من قرية إقرث والمقيم حاليا في قرية المكر.
والكتاب، الذي يقع في 326 صفحة من القطع المتوسط، يضم بين دفتيه عشرات المقالات التي "هي جزء من مقالات في شؤون مختلفة" نشرت في بعض الصحف والمجلات في البلاد ابتداء من العام 1989.
وقد تم طبع الكتاب في "مطبعة أبو رحمون ـ عكا" وأنجز تصميمه غرافيّا وائل واكيم، بينما كتب الأستاذ سهيل عطالله مقدمة للكتاب.
وقدس الأب داود شخصية دينية وتربوية واجتماعية معروفة، علاوة على خوضه العمل الفعلي في مجال النشر ومساهماته الكتابية العديدة. وفي صفحة "الإهداء"، كتب"الخوري إبراهيم": "إلى كل إنسان يحبّ البرّ والصلاح، ويبغض الإثم والرياء... إلى كل من يسعى للفضيلة والسلام والمحبة... وإلى كل من لا يقاوم الشرّ بالشرّ... أهدي هذا الكتاب".
ومن بين المقالات في هذا الكتاب، نختار لكم هنا هذا المقال بعنوان "تحديات الهوية الفلسطينية المسيحية" وهو عبارة عن ورقة عمل قدمها قدس الأب إبراهيم داود إلى مؤتمر"العرب المسيحيون في الأرض المقدسة: الهوية والانتماء"، الذي نظمه مركز اللقاء للدراسات التراثية والدينية في الأرض المقدسة في العام 2006.

تحديات الهُوية الفلسطينية المسيحية
    عانيت كثيرًا وأنا أحاول أن أرتب خواطري وأفكاري حول الموضوع المطروح للبحث: تحديات الهوية الفلسطينية المسيحية!... أعلم جيدًا أنني فلسطيني وأعتزّ بهذا الانتماء. وأعلم جيدًا أيضًا أنني مسيحي، وأعتز أيضًا بهذا الجزء من كياني... فلسطيني مسيحي أنا! عربي فلسطيني مسيحي، مسيحي فلسطيني، فهذه هي هويتي... وأنا شخصيًا، في غاية الراحة لهذا الانتماء والهُوية... ومع هذا فأنا أعاني! أُعاني من الواقع العربي العام المرير، من التحديات الصعبة الكبيرة، ومن الجهل الذي "يتمتّع" به الكثيرون من أبناء شعبي بشأن دوري الحضاري والثقافي، وحتى من التنكر أيضًا لانتمائي إلى العروبة!
   إن الحديث عن عروبة المسيحيين وعن دورهم في إثراء الحضارة العربية  وإسهامهم في الحفاظ على اللغة والتراث والفكر العربي بات مُسيئًا لهم ومثيرًا! فقد قيل الكثير وكُتب الكثير في هذا الخصوص، وأضحى العَود والتكرار، كما أرى، ضربًا من اللغو والفضول فيه شيء من الإهانة! وفقط للتذكير، أريد أن أُنوّه بأن دَور العرب المسيحيين كان بارزًا مميّزًا قبل الإسلام بستة قرون. ثم أضحَوا ركنًا ثقافيًا وسياسيًا وعسكريًا، منذ فجر الإسلام والى ما بعد تأسيس الدولة العربية. لقد أسهم المسيحيون العرب في تشكيل عناصر القوة التي حملت الإسلام الى خارج الجزيرة العربية وبلاد الشام. وفي عصر النهضة (القرن 19 و 20)، لم يتوقف العرب المسيحيون عن ممارسة دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري. ومَن لم يدرك ويقتنع للآن، فأنه لن يفعل، لأنه لا يريد أن يعترف بعروبة المسيحيين ولا بدورهم الفاعل الأكيد... مثل هؤلاء يجهلون أن "طمس الهوية العربية المسيحية يصب في مصلحة الحركة الصهيونية"، كما يرى بصدق الدكتور صالح خلف الحمارنة، الاستاذ المحاضر في الجامعة الاردنية. ( حوار العرب، السنة الأولى، العدد7، حزيران 2005). أقول "يجهلون"، وأنا أتمنى فعلاً أن يكونوا كذلك، حتى لا يكونوا يقصدون!!
   هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فهناك أيضًا بعض المعمّدين، المسيحيين رسميًا، الذين كما أرى، لا يدركون قيمة مسيحيتهم وتاريخَها وانتماءَها! هؤلاء أيضًا يتنكرون لانتمائهم العربي، لأسباب لا مكان لبحثها الآن، ويبحثون عن عرقيات تحت السواحل التاريخية لصور وصيدا، علّها تريحهم من مشاكل هذا الانتماء!
***
    مهما يكن، فالتحدي الأكبر بشأن هذه الهوية، هو أن أكون مسيحيًا حقيقيًا ملتزمًا... والالتزام كما أفهمه بهذا الخصوص، هو اعتماد تعاليم الناصري برمتّها، وقبول تعاليم الرسل الأطهار، والآباء القديسين، والاقتداء بمواقفهم النيّرة المجيدة... المسيحي الحقيقي هو الذي يتماهى مع التطويبات ويعلم جيدًا من هم إخوة يسوع الذين ينبغي أن نخدمَهم، كما ورد في إنجيل القديس متى ( 25 :31-46). هو ذاك الذي يرتفع بالمسيح فوق كل عِرقية وفوق كل إدانة وفوق كل تهميش... على غرار سيده ومخلصه، يذكر دائمًا المَنسيين المُهَمشّين الذين لا يذكرهم أحد... يدعو إلى الرفق والرحمة والمغفرة، ويكون مستعدًا أن يُصلب كي لا ينوءَ إنسان تحت صليب! المسيحي الحقيقي هو الذي يتذكّر دائمًا أن أهم ما في الشريعة والناموس، هو العدل والرحمة والأمانة! إنه المنسحق المتواضع المُحِبّ، الساعي إلى ملكوت الله وبرِّهِ أولاً، والمستعد أبدًا أن يُستَشهَدَ على غرار استفانوس وتقلا وجيورجيوس وبربارة، وغيرهم من الشهداء والشهيدات الأبرار الذين نالوا أكاليل الخلود وقهروا المضطهدين، على مر العصور...
   مثل هذا الإنسان، المسيحي الحقيقي الملتزم، لا يجد نفسه الا بجانب فقراء الارض، المعذبين فيها والمستضعفين، والساعين الى الخلاص والانعتاق والحرية. إنه حتمًا ودائمًا بجانبهم، يساندهم ويتبنى قضاياهم، يفرح لفرحهم، ويتألّم معهم...
   وأنا يا أخوتي، لست شوفينيًا، ولست مرتَهَنًا لجنس او لعرق. لكنني بشر، والفلسطينيون دمي ولحمي وعظامي... فهل يمكن أن أكون، أنا، ذاتي، دون أن تضاف فلسطينيتي إلى مسيحيتي، فتكتمل حينئذٍ هويتي!
***
    من هنا، فأنني شخصيًا لا أرى ولا أشعر بأي تناقض في هويتي "المزدوجة"، الفلسطينية المسيحية... لكنني فعلاً أعتقد أن هذا الواقع يُنشئ ويخلق بعض التحديات التي لا بد من ذكرها والتعرض اليها...
التحدي الأول هو ما تعرضتُ اليه قبل قليل، أعني الالتزام بالمبادئ والقيم والتعاليم الإنجيلية، التزامًا ثابتًا، والايمان بها إيمانًا لا يتزعزع، بحيث يخدمني في كل ظرف وفي كل علاقة مع الآخر... إنني على يقين أن هذا النهج أيضًا، يجعلني قريبًا من المؤسسة الكنسية، عضوًا فاعلاً ومواظبًا فيها، الأمر الذي يساعدني، كمؤمن ملتزم، أن أُساهم في الحفاظ على نقاء الكنيسة من كل شائبة، وعلى ترشيد وسلامة مسيرتها.
وهذا عمليًا، هو التحدي الثاني؛ أعني العمل الواعي والمنهجي على تنقية الكنيسة مِن كل مَن يسعى الى مصالحِه الشخصية، مالية كانت أم اجتماعية، على حساب مكانة الكنيسة وسمعتها وصالح أبنائها. ولا أتجنى اذا قلت ما يعلمه الجميع، إنّ الكنائس المسيحية في معظمها قد عانت، والبعض ما فَتِئ يعاني، من مسؤولين اكليريكيين غيَّبوا الله عن وجوههم، فتصرَّفوا في اموال الكنيسة وممتلكاتها ومُثُلِها، كما لو كانت ممتلكاتهم الشخصية!! هؤلاء الذين يستغلون رتبهم الكنسية، ويتحايلون على بعض "القوانين" المهترئة، يَصِمون الكنيسة وما يُمثّلون، بالعار والخِسّة! ولذلك فوجود الملتزمين الشرفاء في الكنائس وعدم الابتعاد عنها لأي سبب، مهما بدا وجيهًا، يُشكّل تحديًا كبيرًا في ضرورة الحفاظ عليها وعلى إيمانها ودورها البالغ الخطورة في خدمة الوطن وقضاياه ووحدة أبنائه...
وكفلسطيني مسيحي، فأنني أقف أمام تحدي الحفاظ على المقدسات- الأماكن المقدَّسة، في كل أنحاء فلسطين... لقد أقيمت هذه على التراب الفلسطيني، لأن السيد المسيح وُلِدَ من العذراء الطاهرة، ابنة بلادنا، في بيت لحم، ولأنه عاش بين أهلنا، واختار تلاميذه منهم، وتجوّل معلمًا في دروب بلادنا وهضابها وشطآنها... كذلك، لأنه تألّم وصُلب وقام في اليوم الثالث في قدسها- قلبها وعاصمتها الخالدة! فكيف يمكنني، أنا المسيحي الفلسطيني الهوية، أن لا أتمسّك بأرضي الطاهرة المقدّسة، أو أن " أدير ظهري" وأمشي؟!
واذا كان الحفاظ على المقدسات تحديًا لصاحب هذه الهوية، فإن، الحفاظ على المقدّسين أبناء الكنيسة في فلسطين، يُعتَبَر في تقديري تحديًا أكبر وأهم... فما قيمة الأماكن المقدّسة دون أيقوناتها الحيّة؟! متاحف باردة، إن سَلِمَت من الهدم، لبعض السيّاح والحجاج!!.. لن أدخل هنا في تفاصيل هجرة المسيحيين العرب عمومًا، والمسيحيين الفلسطينيين خاصة، فقد سبقني الى ذلك من هم أكثر إلمامًا بالموضوع وأوسع اطلاعًا على جوانبه وحيثيّاته... لكنني سأكتفي بالتأكيد بكل مرارة، أنه عارٌ على الأمة العربية برمّتها، على مؤسساتها المسيحية والإسلامية، على حكوماتها، وعلى قادتها العلمانيين والروحيين، على حد سواء، أن يظلوا يتفرجون على الأحداث، ولا يهبّوا بكل ما يملكون من موارد وإمكانات للحدّ من هجرة المسيحيين من ديارهم، والعمل الجاد على ترسيخ بقائهم ووجودهم وتحريرهم من الشعور بالغُربة والقلق! إنه لا يوجد أي مبرر لاستمرار السكوت و"الغطرشة" او "التطنيش" عن هذه الظاهرة الخطيرة، فقد آن الأوان لدراسة أسباب الهجرة ودوافعها الحقيقية، ومعالجة هذه الأسباب، مهما كانت، لوقف هذا النزيف الدامي في جسد شعبنا الفلسطيني، الذي لا تنقصه أسباب أخرى للألم والنّزف والشتات!
واذا كان وقف الهجرة تحديًا كبيرًا بالحجم الذي صَوَّرْتُه، فأنني أرى أن العمل الواعي الدؤوب لإعادة المهاجرين الشباب الى أوطانهم، لا يَقِل أهميةً وحجمًا عن سابقه... إنني لا أجهل صعوبة الجهد او الجهود التي ينبغي بذلها في هذا الخصوص الشائك المثير، وكذلك أُدرك جيدًا ان هذه القضية ليست، للأسف، في مقدمة القضايا الهامة الساخنة لشعبنا، لكنني مع هذا أُصرّ ألا يغيب الموضوع عن بالنا، وألا يُغَيَّب لأي سبب!. إن صنع السلام في بلادنا، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة الديميقراطية الحديثة، وتَحَسُّن الأوضاع الاقتصادية، بالاضافة الى الاهتمام الجادّ بتربية الأجيال، صغارًا وكبارًا، على القيمة الأعظم في احترام الآخر واحترام عقائده وثقافته، كل هذه، من شأنها أن تشكّل عوامل جذب لعودة المهاجرين الذين، كما لا يخفى على أحد، يجرحهم الحنين كثيرًا الى بلادهم وتراثهم وجذورهم...
       ولعله من الوفاء أن نذكر، ولو بمثل هذه السرعة، أن جهودًا فردية مباركة من قِبَل بعض الأخوة، في مشاريع استثمارية، في الحقول والمجالات الأكاديمية والصحية والسياحية، قد أسهمت في تثبيت الكثيرين في ديارهم، و/ أو في عودتهم الى هذه الديار... فما بالكم لو كانت مثل هذه الجهود تُبذَل من قِبَل دول وحكومات؟!...
 في أحد مقالاته الاسبوعية، التي نشرها في صحيفة "الأهالي" المحلية، بتاريخ 992004، كتب رئيس تحريرها الكاتب المعروف، غازي أبو ريا، تحت عنوان، "عجزتم أن تكونوا مسلمين، كونوا كفار قريش على الأقل"، يقول: "مع بدء الدعوة الإسلامية، عقد زعماء قريش "حلف الفضول"، وذلك لنصرة اي مظلوم في بلدهم. وكانوا يتوسلون للمسلمين بألا يهاجروا الى الحبشة، وحاولوا ثني عزمهم عن ذلك. ومما يؤكد هذا، أن كل المهاجرين الى الحبشة غادروا بسلام ولم يُقتل منهم أحد... لقد أحسّت قريش بالحرج والمهانة من هذه الهجرة، ولهذا أرسلت وفدًا إلى الحبشة لإعادة المهاجرين..."
***
    يبدو ان التحديات، على أنواعها، جزء من كياننا ووجودنا كفلسطينيين، وكمسيحيين، على هذه البقعة من الأرض!... فهل نقبل هذه التحديات ونختبرها، أم نقف متفرجين، ونترك الأحداث والجماعات والعلاقات دون أن نتفاعل معها، ودون أن نؤثر فيها أو عليها؟!
    هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرحه كلّ فلسطيني مسيحي على نفسه، حتى يستطيع تحديد دوره وموقعه بشأن ما يُسمّى أزمة الهوية والانتماء... إن مراجعة نهج المسيحيين من خلال تاريخهم وعلاقاتهم مع أخوتهم المسلمين، من شأنها ان تنير الطريق أمام كل راغب في المعرفة... وإذا تحدثنا باقتضاب شديد، فأننا نؤكد ان هذه الخبرة الحياتية بين المسلمين والمسيحيين، في الشرق بشكل عام، وفي فلسطين خاصة، تمتد جذورها عميقًا في رَحِمِ الزمان، وتتسم بتميّز وغنى من حيث المضامين والخصوصيات.
    لقد أشرتُ في ما سبق إلى إسهام المسيحيين في نقل الإسلام إلى بلاد الشام والشرق. وأريد أيضًا أن أؤكد أن الجماعات المسيحية في البلدان التي دخلها الإسلام لم تنغلق على نفسها، بل تفاعلت معه، وأثرت في بلورة حضارته وثقافته. لقد قبل المسيحيون اللغة العربية، فأضحت هذه لغة التخاطب اليومي ولغة الطقوس الدينية ولغة الثقافة والإدارة الكنسية. كذلك نقل المسيحيون ثقافة الإغريق والسريان الى اللغة العربية، مما أفسح المجال لهذا التفاعل والتطور الحضاري الخلاّق... لقد استمر هذا التفاعل، واستمرّت مساهمة المسيحيين مع المسلمين في وضع الملامح الجديدة للثقافة العربية، إلى يومنا هذا... 
  أما على الصعيد الفلسطيني، فقد كان لهذه العلاقات فرادتُها وتميزُها. فالطابعُ الديني للأرض الفلسطينية، والموقع الجغرافي، والمجتمع الفلسطينيُّ نفسُهُ، الذي لا يوجد فيه تناقضات عرقية أو قومية، هي عوامل تجعل التعددية الدينية والحوار فيه أمرًا مألوفًا وأليفًا في الوقت ذاته. أضف إلى ذلك، فإن القضية الفلسطينية وأبعادَها وانعكاساتها قد قرّبت المسيحيين والمسلمين لينصهروا في هوية واحدة، يتألّمون معًا، ويناضلون معًا، ويتقاسمون التطلعات المستقبَلية الغامضة معًا...
   هل نستطيع بعد هذه الاضاءةِ العاجلة أن نحدّدَ موقفَنا وموقعَنا بشأن الهوية والانتماء؟!



المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق