المواجهة التربوية في قصص مينا عليان حمود
2009-02-11 16:39:21
مارست الكاتبة مينا عليان حمود كتابة الشعر والنثر بمجالاته المتعددة، كالقصة والخواطر والمقالات، وتركزت أعمالها مؤخرًا بكتابة قصص الأطفال. وتبدو هذه القصص لأول وهلة بأنها كتبت للكبار ليقرأوها أمام الصغار، أوعسى الصغار يدركون القراءة والكتابة؟ طبعًا يدركون، وطبعًا يفهمون القصة والفكرة والمقولة والعبرة من كل ما يحيطهم ويجري أمام أنظارهم، ولا نغفل عن ردود أفعالهم حيال ما يدور في فلكهم أو مخيلتهم أو أفكارهم.
هذا ما أدركته مينا في مجموعتها القصصية التي صدرت عن دار الهدى والتي تبناها مركز أدب الأطفال في المعهد الأكاديمي لإعداد المعلمين العرب في بيت بيرل. وجعلت مينا أبطال قصصها من الواقع المحسوس والملموس الذي ينم عن تجربة ذاتية يعيشها الطفل أو الولد. ووضعت هذه الشخصيات في مواجهات مباشرة مع التجربة التي يعيشونها يوميًا، فمثلاً تضع الولد في حالة الخوف ومواقف الرعب التي يراها أو يصادفها أثناء حياته، وقد تكون هذه المواجهة عن وعي وإدراك أو بغير وعي وإدراك. كما جرى في قصة "نعنع والمخيفة السوداء". أو أنها تضعه في موقف حرج أو إغراءات ذاتية إما نفسية أو جسدية كما حصل في "العصافير تحب الحرية". أو الصراع لمن الأقوى وفرض الإرادة والكلمة بين الرفاق كما تم في "ماذا تقصد أمي"، وغيرها من الحالات والمواقف التي يواجهها قسرًا أو تفرض عليه فرضًا بطبيعة الحياة العادية التي يعيشها الولد في البيت أو الشارع أو المدرسة، مع رفاقه أو خلانه أو ذويه ومعلميه.
وبعد هذه المواجهات تنكشف الحقيقة أو نتيجة التجربة التي صادفها الولد وكأنه يخلص إلى هذه النتيجة بعد ممارسته للتجربة وبعد التعبير عن خشيته أو رغبته باكتشاف ما ينم عن هذه المواجهة. وقد تكون هذه التجربة من الخطورة بحيث تعرض حياته وكيانه للخطر النفسي أو الجسدي، ولحسن الحظ أنها ترفق بكل حادثة من يوجه ويرشد لدرئ الخطر عن هذا الولد، ولكي يكشف له حقيقة الأمر، وقد يكون هذا مربيًا صديقًا أو أمًا أو عصفورًا أو شجرة.
وتتعدد المواضيع التي تتطرق إليها الكاتبة والمجالات التي تعالجها بحيث تشمل مرافق الحياة الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية والطبيعة كلها. وتهدف من وراء ذلك بأن تعرض للولد النواحي التربوية وتكسبه المفاهيم والقيم الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها. ولا غرو بأن يتبنى هذه المجموعة القصصية المعهد الأكاديمي لإعداد المعلمين، وبلغ عددًا لا بأس به من القصص الشيقة للأطفال والأولاد، وكأن الكاتبة تلقن هؤلاء المعلمين ما يتوجب أن يتخذوه عبرة لطلابهم في المدارس. وربما ذهبت بعيدًا في هذا التفسير، ولكن الجو التربوي يفرض نفسه ويطغى عليه الطابع التلقيني. فهل نكتب قصة للأطفال أو الأولاد لنفرض فيها الرأي أو الموقف التربوي؟
للرد على هذا السؤال يتحتم علينا النظر إلى أدب الأطفال ومراجعة الأعمال الأدبية لكبار الأدباء الذين عالجوا شؤون الطفل والولد. فنرى أكثر من أديب وشاعر لا بل أكثر من فيلسوف ومفكر، كلهم وضعوا النظريات التربوية منها المكمل ومنها المناقض ومنها ما يناسب هذا المجتمع أو ذاك المجتمع، فإذا كان "جون ديوي" ملائمًا للمجتمع العربي، فقد لا يكون "كانت" ملائمًا له، وما ينفعه من فلسفة "ابن الفارض" قد لا يكون نافعًا من فلسفة "ابن خلدون". وهنا يقف المربون والمربيات موقفًا أعتقده صوابًا، وهو أن يتخذ كل مرب ومربية من الطفل على أنه عالم مستقل قائم بحد ذاته، فيتعامل معه من هذا المنطلق ومن منطلق النظرة الاجتماعية الحاضرة والمستقبلية معًا، لا بموجب هذه النظرية أو تلك. إذن لندع التنظير والتقييم ولنخاطب الطفل على أنه إنسان وليس محطة تجارب، وعلى أنه يعيش حاضره الذي سيؤثر فيه تأثيرًا بعيد المدى في المستقبل، وعلى أنه سيبني لهذا المستقبل ما ينفعه شخصيًا وينفع عائلته ومجتمعه.
إن الرابط العائلي والاجتماعي الذي كان سائدًا قبل عشرات السنين لم يعد ساري المفعول في هذه الأيام، كما أن العلاقة العائلية والقيم الاجتماعية هذه الأيام قد لا تكون صالحة بعد عدة سنوات، ولكن الكتابة الإبداعية والأعمال الأدبية تبقى مطبوعة لا على الورق فحسب بل في الأذهان والنفوس، وتتناقلها الأجيال جيل بعد جيل. ألسنا الذين نشأنا على مغامرات السندباد، وتربينا على قصص الشاطر حسن وعلي بابا وغيرهما من قصص ألف ليلة وليلة؟ ألسنا الذين ترعرعنا مع أولادنا على قصة ليلى الحمراء أو الأقزام السبعة أو الأميرة النائمة وغيرها من روائع الأدب العالمي للأطفال؟ لماذا لا ننحو على هذا النحو في إبداعاتنا للأطفال والأولاد؟ كيف استطاع كاتب الأطفال الكبير هانس كريستيان أندرسن أن يتحفنا بروائعه: "الحذاء الذهبي" و "عازف المزمار" وغيرهما؟ ألا يستطيع أدباؤنا وكتابنا على اختلاف وجهاتهم التربوية والإبداعية أن يصوغوا لنا ما يلائم أطفال اليوم والغد؟ طبعًا يستطيعون، فلماذا لا يفعلون؟
إن الاعتبارات التي يأخذها كل كاتب نصب عينيه يضع فيها القارئ ويتعامل معه من موقف إنسانيته ويجعل النظرة الإنسانية إلى الأمور هي السائدة، فينجح بالتقرب من كل قارئ وكل طفل وولد، في بلادنا وفي بلاد العالم وفي مجتمعات الدنيا قاطبة، ولكن إذا كتب قصة لكي تدر عليه الربح المادي أو لكي يحصيها مع مجموعته الأدبية ويقول بأنه وضع أكثر من عشر أو عشرين مؤلفًا.. فهذا ليس بمبدع ولا كاتب، لا على الصعيد المحلي ولا العالمي بالتأكيد.
ولاحظت مما أصدرته الكاتبة مينا عليان حمود حتى الآن بأنها لم تقصد أن تحصي عدد كتبها بل دأبت على طرح أساليب التربية التي تؤمن بوجوب ممارستها مع النشئ الجديد، ولفتت انتباهي قصة "العصافير تحب الحرية" كيف أنها "تؤنسن" الطير والحيوان والطبيعة لكي تخاطبها بمحبة ومودة حفاظًا عليها وعلينا. فهذه "الأنسنة" ترفع من مكانة القصة وشخصياتها إلى مرتبة مرموقة إبداعيًا وتربويًا، فيتفهمها القريب والبعيد، ويقبلها القاصي والداني، ولذلك وردت في قصص اخرى لها. وكذلك قصة "نعنع والمخيفة السوداء" التي تجعل الولد يخوض تجربة الخوف من المجهول أو من أسطورة "الغول" المخيف، وهي لا تريد أن تسمي الغول باسمه لأنها لا تؤمن بوجوده، فتجعل الولد يعبر عن مخاوفه وخشيته مما يرهبه ويرعبه، وبالتالي تتكشف الحقيقة ويتبين الواقع بأن الوهم قد يطغى عبثًا على حياة الصغار والكبار على حد سواء. فهذه المواجهة تقوم بعملية "التطهير – الكتارزيس" التي قال عنها أرسطو بأنها من مقومات الإبداع، شعرًا وفنًا، وبالتالي تؤدي إلى التخلص من هذه المشاعر أي مشاعر الخوف. تمامًا كما يحدث في المسرح عندما تؤدي الدراما إلى التطهير من هذه الانفعالات، الرحمة والخوف.
ومما لا شك فيه أن هذه القصص تلقى إعجاب الطلاب في المدرسة لأنها تندرج في إطار المنهاج التربوي والنظريات التربوية التي تمليها المدرسة على الطالب، ولكني أرغب بأن تلقى هذه القصص ذات الإعجاب للولد والبنت والأب والأم والجد والجدة الذين يقرأون هذه القصص أو يروونها لأبنائهم وأحفادهم، لأنها تخاطب الكبير والصغير، تخاطب الإنسان حيثما وجد، وتثير انفعالاته وتنمي خيالاته وتقوده إلى استيعاب الفكرة. ويبدو بأن الكاتبة المتمرسة لديها من القدرة على تحقيق ذلك، فأتمنى لها التوفيق والنجاح.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق