العقلانية بقلم د.حسيب شحادة
2009-02-11 14:24:34
كتب طه حسين في مدخل كتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر عام 1926 ما يلي: “لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا مكترثين ب ?نصر الإسلام أو النعي عليه، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي، ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية أو تن! فر منه الأ7 ?واء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية. فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد، فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء”. !
كان قد عبّر عن مثل هذه النظرة العلمية فيلسوف العرب، أبو يوسف يعقوب الكندي المتوفى حوالي عام 865م. من آراءه المعروفة، ينبغي احترام الحقيقة وتبنّيها بغ! ض النظر عن مصدرها حتى ولو أتت من أقصى الشعوب والأجناس المختلفة عنّا.
لا ريب أن العلم الموضوعي والإدراك الموضوعي للحقائق معناه تحرير الإنسان على مختلف المستويات. على الإنسان أن يعلّل ويحلّل، أن يفكّ ويربط، أن يصوّر  08 ?يفسّر فالنصّ يقيّد والتأويل يحرر. على الباحث الحقّ أن يجرّد نفسه من العواطف والأهواء ورفض الخرافات والشعوذة والخزعبلات إذ أن العقلانية تتعامل م u1593 ? الانطباع?ات على الفكر بموضوعية ومنهجية. كما لا بدّ من تنمية الملاحظة الذاتية واللجوء إلى نهج الاستقراء والاستنتاج. المرء العقلاني لا يصدّق أي شيء غير واضح ا! لمعالم فهو يحلل المشكلة إلى فروعها ومكوناتها ويبحث في كل فرع على حدة. يتحتم على مثل هذا الشخص أن يشكّ ويسأل وهذا معناه التفكير والتفكير ينمّ عن الحي! اة، Cogito ergo sum أنا 1 ?فكّر إذن أنا حيّ.
إن مصلدر التعليم العلمي الحديث موزّعة في الأساس على ثلاثة محاور أساسية: البيت والمدرسة والمجتمع وهي، وللأسف، ليست بحالة خير في العالم العربي حيث  79 ?لثه أميّ بالمعني التقليدي للكلمة. لا مندوحة من التعاون البنّاء بين هذه المحاور بغية تنمية روح الموضوعية والعقلانية والاستقلالية والنقد الهادف. u1573 ?ن عملية تŸ ?وير المنهج التعليمي منوطة بوزارة التربية والتعليم في الدولة واتّباع هذا النهج القويم يؤول لا محالة إلى الدفاع عن قيم أساسية وهامّة في المجتمع ال 1576 ?شري مثل العدل والحرية والتقدم في شتّى المجالات والخير العام. إن روح الانتهازية والاستغلال والنفاق وحبّ الذات مستشرية في المجتمعات العربية وعلى! المحاور ا4 ?مذكورة وكذلك المسجد والكنيسة والصحيفة والمذياع والتلفزيون والسينما والمسرح والفيديو والإنترنت العمل المستمر وفق خطط مدروسة من أجل إعلاء قيمة ? الإنسان العربي وكرامته وعزّته الوطنية.
كيف يتسنّى غرس الروح الوطنية الحقّة في قلوب فلذات أكبادنا عن طريق نشيد وطني معيّن يُحفظ ليُنسى أو خطاب حكومي يُفرضان عليهم فرضا. ما زالت مناهج التع 1604 ?يم في العالم العربي عامّة ترتكز في معظمها على التلقين والحفظ غيبا. تلك هي الحالة منذ دور الحضانة وحتى الجامعة بمستويات مختلفة. علينا أن نذكر بأن ال 1587 ?مة البارزة في التعليم العصري المتقدم هي التعليم الذاتي في الملاحظة والبحث والتصنيف والتحليل والتركيب. بجانب التخصص المتعمق في مادّة علمية معينة لا مندوح 7 ? للإنسان المثقف المعاصر من أن يكون بانوراميّ المعلومات والمعارف.
من الأخطاء الفادحة في التعليم اعتبار العلامة وكأنها المؤشر الحقيقي للكفاءة في حين أنها في الواقع تشير في معظم الأحيان إلى مدى البصم والاستذكار. ه 84 ?ا الأسلوب في البصم مؤقت وغير راسخ في العقول وينبغي استبداله بأساليب تستند إلى تنمية المهارات في التفكير الحرّ المبدع والحوار والمناقشة الموضوع 1610 ?ة الهادئة والعميقة. للبصم أو الحفظ غيبا دائرته الضيقة الخاصّة به مثل جداول الحساب وتلاوة الشعر والصلوات الخ. وهذا أمر ضروري ونافع لا سيما إذا كان مقرونا بالف! هم. لا بدّ من تنمية الثقة بالنفس ومن مخزون ثقافي فكري محفوظ في ذاكرة الإنسان الحديث الواعي لاستغلاله عند الضرورة. لا أدعو بهذا أن يكون الإنسان العصر! ي في هذا ال88 ?أن مثل الأصمعي الذي يُروى أنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة!!
من الدماثة والأخلاق الحسنة أدب الجدل وعدم الإساءة لمن أساء إليك والتحدّث بصوت خفيض. من المسائل التعليمية الهامّة التي ينبغي تنميتها ما يمكن أن يُ 83 ?عى بـ”التعليم بالخبرة المباشرة”. الطبيعة بحيواناتها ونباتاتها وطيورها وزواحفها مدرسة متكاملة لكل من يتأملها بروحه وعقله. كفى بالنمط الخطابي  5 ?لرنّان، إ606 ?ه كالبرميل الفارغ يُحدث الجلبة والضوضاء عند دحرجته، أما البرميل المملوء فلا يحدث مثل هذه الأصوات المنكرة. إذا ما تأمل المرء سهلا مزروعا بالقمح لو ?جد أن السنابل المملوءة بحبات القمح مطأطأة الرأس أما تلك الجوفاء فتراها مشرئبة العنق والرأس.
أذكر أنني قرأت منذ زمن طويل أن معلما سأل تلاميذه الصغار في مدينة غربية كبيرة عن مصدر الحليب الذي نشربه. أجاب بعضهم “من الأرانب البيضاء” وبعضهم قال ! blquote من القطط” والبعض الآخر قال “من بائع البقالة”. لا شك أن أطفال تلك المدينة العصرية وربما كانت مدينة ناطحات السحاب لم تر أعينهم مناطحة البقر والضأن ! والماعز و ?لجواميس. ربط التلميذ ببلده وأرضه ووطنه يساعد على تعميق المعرفة وترسيخها في عقله وذهنه ويعمل على إرهاف حسّه.
هناك موضوعان هامان في تنشئة التلميذ وهما لا يلقيان، وللأسف، الاهتمام اللائق بهما في المدرسة العربية. إنهما التربية البدنية والموسيقى. الحفاظ على ? لياقة بدنية مقبولة غدت من الأهداف الهامّة والملحّة التي يسعى إلى تحقيقها كل إنسان واع في عصرنا الحديث هذا. عنصر الحركة للإنسان العصري أصبح ضروريا! جدا جسديا 08 ?نفسيا على حد سواء.
يُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب قال: “علّموا أولادكم السباحة قبل الكتابة فإنهم قد يجدون من يكتب لهم ولكنهم لن يجدوا من يسبح عنهم”. أما بالنسبة للطفل  1601 ?علينا أن نشير إلى أهمية اللعب. جاء في وثيقة حقوق الطفل المعلنة عام 1959 في البند السابع ما يأتي: “لكل طفل الحق في الحصول على قدر إجباري من التعليم وقدر وا ?فر من فرص ا604 ?لعب والترفيه”. أما الموسيقى فهي إكسيرالوجدان ونضوج الشخصية. التذوق الموسيقي جدّ هام على درب الإبداع والابتكار.
يبدو لنا أن المكتبة العربية ما زالت تفتقر لكتب المطالعة الجيدة للشباب وأفلام للأطفال مستوحاة من واقعهم. الغالبية العظمى من سكان العالم العربي، ث  4 ?اثمائة مليون نسمة، تعتبر البرامج التلفزيونية وكأنها ترفيهية بالمفهوم السطحي للفظة أي “قتل الوقت”. نعتقد أن مثل تلك البرامج الترفيهية التي تحم  4 ? في بعض طياتها مضمونا معينا ما زالت يسيرة وغير عميقة بالقدر الكافي الذي يتمشى ومتطلبات العصر الحديث ومعاييره. من الواجب استغلال الإمكانيات التقنية الهائلة ? المتوفرة اليوم وتسخيرها لخدمة تنشئة الطفل العربي وتربيته تربية حرّة عقلانية خلاقة ومستقلة.
العناية باللغة، بلغتنا القومية واجب مقدّس، إذ بدونها لا وجود للمعرقة والفكر. اللغة ليست مجرّد ألفاظ تقال أو تكتب، إنها ملك من يتعلمها ولا أثر فيها  1604 ?لوراثة أو الجنس. إن التمكن من قواعد اللغة العربية لا يؤدي بالضرورة إلى السيطرة عليها والتمكن منها. قال شيئا مشابها لذلك منذ قرون عالم الاجتماع الف 584 ?ّ ابن خلدون “إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة، ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وانما هي بمثابة من يعرف صناعة م ?ن الصنائع علما، ولا يحكمها عملا”. في مستوى تحليلي معين ليست اللغة وسيلة تعبير أو تفكير وحسب بل إنها عيّنة من السلوك الإنساني والهوية الشخصية. في أل 601 ?اظ اللغة شحنات تاريخية متنوعة من الثقافة والفكر، فالثقافة، في الواقع، محصلة ما تعبر عنه اللغة من مشاعر وميراث شعبي وتواتر العادات والتقاليد وقيم عن الأرض  08 ?الدين والتاريخ لدى شعب معيّن. بعبارة وجيزة، يمكن القول إن دور اللغة ذو أبعاد عميقة ومستديمة في حياة الفرد والجماعة على حدّ سواء. هناك في عصرنا فئة م 606 ? المثقفين تربّت وترعرعت على الفكر الأجنبي وتكتب بعربية واهية ركيكة بعيدة عن أصولها ومنابعها. يقال إن هناك حوالي ثلاثة ملايين من المخطوطات العربية موزعة عل 09 ? مكتبات العالم وهي تعالج مواضيع علمية وفكرية وأدبية مختلفة. نُشر من هذا التراث الضخم نزر يسير لا يتعدى الثلاثة بالمائة.
الأدب الرفيع لا يعني مجرّد التألق اللغوي بل إنه في الأساس لسان الحضارة. الفكر يبقى مشلولا إذا كانت الثروة اللغوية لدى شخص ما محدودة. رغم هذا ما زالت ب ?عض مدارسنا على الأقل تستهل دروس اللغة بفرع النحو، نظام الجملة، بالجملة التي أكل الدهر عليها وشرب “ضرب زيد عمرا” بدلا من إكساب مبادىء لغوية أساسي 77 ? وبسيطة بعيدة عن الضرب تتناسب والقدرة الذهنية لدى الأطفال عبر الصورة الجميلة والجملة المعبرة عن الواقع الحي المعاش في بيئة الطفل. كل شيء آخر لا يمتّ لعالم ال 1591 ?فل بصلة وثيقة يكون بمثابة النقش على الماء.

غني عن الإيضاح أن السلوك العقلاني المتحضّر يتكوّن من سلسلة طويلة من الحلقات المتداخلة مثل: السكوت في بعض الحالات أعلى صوتا من الكلام؛ الشعور المر 07 ?ف بالمسؤولية والواجب نحو المجتمع؛ إسداء الشكر بابتسامة على المحيا؛ إكتساب مهارة شاقّة وهامّة اسمها “الإصغاء”؛ احترام الوقت والنظام؛ العمل عل ?ى تحقيق ال571 ?هداف

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق