"مشيئة الجسد " في راوية بربارة
2009-01-24 13:49:15
ما اجمل الشعور والإحساس الذي ينتابك حين تقف على شاطىء البحر تتأمل شروق الشمس او غيابها
وما أحلى اللحظات التي تتمتع بها عندما تتمشى وسط مرج مليء بالازهار ..تتامل الفراشات الملونة وهي تتنقل بين ازهاره..
تلك هي بعض المشاعر والاحاسيس التي إنتابتني حين قرأت المجموعة القصصية الجديدة " من مشيئة جسد " للكاتبة والاديبة المبدعة - راوية بربارة-..والتي اهدتني اياها مشكورة ..
هذه الاديبة التي ما ان تلتقي بها لأول مرة حتى تجد نفسك منجذبا الى لباقتها وطلاوة حديثها ودماثة اخلاقها ويسحرك بريق الذكاء المتألق في عينيها ..
راوية هي شابة عصامية وطموحة ذات سرعة خاطر وبديهة .. استطاعت من خلال كتاباتها ان تشق لها طريقا واضحا في عالم الادب وخير دليل على ذلك مجموعتها القصصية الاولى " شقائق الأسيل " والتي اصدرتها عام 2007 ولاقت اعجابا كبيرا في الاوساط الادبية ..زد الى انها تعشق اللغة العربية وتتقنها .. حيث حازت على اللقب الثاني في آدابها من جامعة حيفا وتعمل على الحصول على لقب دكتوراة في الادب العربي حاليا ..
تكتب راوية بلغة سلسة جذابة.. تأسرك من اول مرة تتعامل مع نصوصها ..هذه اللغة التي بتنا بأمس الحاجة للكتابة بها ..حيث تشدك جمالية التعابير وانتقاء المفردات بعناية.. وحلاوة الصور الادبية التي تتعامل بها في نصوصها ..و..كتاباتها ..والأهم هو جدية المواضيع التي تتناولها او تطرحها وتعالجها ..فهي وليدة الديار تسعد لسعادة شعبها وتتالم لألامه وتشقى لشقائه وتفرح لفرحه..
تحاول راوية من خلال قصصها وضع الاصبع على الجراح المفتوحة ..لتتعامل معها بمهارة يد جراح ماهر ..فتكشف امام القارىء هموم ومعاناة والام واحلام وامال الناس  اليومية ..
ففي قصتها " شارع الأنبياء " تلقي الضوء على الصراع الداخلي الذي يعيشه شعبنا في الداخل بين انتمائه وولائه للدولة وبين انتمائه وولائه لشعبه في الشتات ..وتلقي الضوء على الصراع الدائر بين الثقافتين العبرية والعربية التي نحاول أن نتمسك بها ..خاصة لما نشهده من تحريف وتزييف وتشويه وعبرنة كل ما يدل على وجودنا في هذه البلاد كتغيير اسماء القرى والمدن والمواقع الجغرافية ..ليصبح شارع الأنبياء " رحوف هنفيئيم " وشارع الملوك " رحوف هعتسمؤوت ومغارة النبي الخضر " معارة الياهو هنفي " الخ ..
اما في قصة " سرير وسريرة " فتتناول الكاتبة ظاهرة اجتماعية مأساوية من خلال قصة زوجة تترمل فتموت احلامها بموت زوجها فتجبرها التقاليد والاعراف على الزواج من أخي زوجها ..دون الأخذ بعين الاعتبار الآلام النفسية والجسدية التي ستعاني منها الزوجة المنكوبة والمفجوعة جراء هذا الزواج.." لتجمع بين همزتي الأرملة والأخ وتكّن مدّة للآه ...فتتناسى احيانا كينونتها وتتأقلم بسذاجة دخيلة مع مشاغلها ..تراوغ لتفتعل الحياة عادية ..تجاهد لتُشعِر هذا الذي انقذها من براثن الموت الحياتي ..انه اصبح رجلها رغم انها دفنت احلامه ووارتها في نعش وهنها وقهرها وعوزها ..فتركته يقرن همزة الأخوة بهمزة ترمّلها ..لتحافظ على كذبة بقائها حية في مجتمع دفنها مع زوجها الحبيب في ذات الرمس وذات الوقت ".
اما في قصة " رحلة نضوج " فتتحدث الكاتبة عن جيل المراهقة ومعاناته وأحلامه الوهمية ..وعما يعانيه الشباب والشابات في هذا السن الحرج ..فيعيشون أحلاما وردية سرعان ما تتحطم على صخور الواقع ..خاصة عندما تمر الأعوام سريعا ويتناسى البعض نفسه حتى بعد زواجه ..مسترسلا في تصرفاته كمراهق ..ليتذكر فيما بعد " انه اذا تابع الاحتراق سيخرج بعد هذه التجربة رمادا ..ينفث روائح دخانه في حياة اولاده.. ويلطخ مستقبلهم بشذرات رماده ".." فالسنون تمر والإضاءات المختلفة تلقي الضوء على متباينات متناقضات ..فواحدة تملأ شبق فكره وأخرى تملأ شبق جسده وثالثة تملأ شبق روحه وغيرها تهزأ من تواضع تجربته ..وهذه تشعره بعدم النضوج "..
وفي قصة " شرخ نازف في الروح " تتحدث الكاتبة عن المعاناة التي يعيشها شعبنا في الداخل والخارج بسبب جدار الفصل ..الذي يفصل بين اجساد الأحبة والأهل وأحلامهم ..ليصبح " جدارا عازلا للحب " لا للحرب ! حيث " ترى الجزار يبني سوره وحجارته على اجساد البشر ورفات أرضهم ولا تملك إلا ان تهدمه بالحب ...فتنقض على الجدار العازل وتخدشه وتخدشه ..فتحدث شرخا محرجا كالشرخ النازف في روحها المعزولة"  ..
ثم تعود الكاتبة في قصة اخرى تحت عنوان " بيوت من رمل " فتتناول من خلالها مأساة الشعب الفلسطيني في الشتات والغربة وما عناه ويعانيه من قسوة وعذاب وتشرد واضطهاد ومجازر  ..ملمحة الى ما جرى في " صبرا وشاتيلا.. وتل الزعتر.. " وكيف ان الأطفال.. يبنون بيوت آمالهم من الرمل على امل العودة يوما الى بيوتهم في الوطن التي هجروا منها قسرا ..فياتي الواقع ليحولها الى دمار ورماد كما حدث في المخيمات خاصة " صبرا وشتيلا " ..حيث " تحفر هدى فتتردد الأصداء خائبة لا تحمل الا الأزيز ..فتحفر وتبكي وتجن وتجد في قاع القبر الرملي صدفة في جوفها مفتاح " إشارة الى مفتاح البيت الذي هجرت منه قسرا في العام 1948 ..
بعد ذلك وفي قصة اخرى تحت عنوان " عندما ترفرف الأعلام " تنتقد ظاهرة المنافسة الى حد الأقتتال على رفع الأعلام الأجنبية في فترة الألعاب الأولمبية " المونديال "... ناسين ان قسما من تلك الدول كان سبب نكبته خاصة بريطانيا وفرنسا في معاهدة سايكس بيكو وانجلترا في وعد بلفور وفي العراق ..وايطاليا في ليبيا وفرنسا في الجزائر وسوريا ولبنان..هذه الدول التي تقف موقف المتفرج لما يجري في الشرق الأوسط وحتى انها تتدخل مباشرة كما حدث عام 1956..
ولكن راوية لا تنسى هموم المجتمع ومشاكله فها هي في قصة " رسم امرأة " تتطرق الى معاناة امراة وابنتها بعد ان ترملت وفقدت زوجها الحبيب الذي دفنت معه حبها واحلامها .. لتجبرها الأعراف والتقاليد ان تتزوج من أخيه ..لتذوق اللوعة والعذاب خاصة عندما تنادي الصغيرة اباها الغائب الذي رحل دون عودة فتقول: "تبحث عنك بين الرجال لعلك تختبىء هناك ..تقبلك تناديك باسمك فترش الملح فوق جروحي النازفة..فكل مساء احضنها أشمها أخبئها من روائح الحياة ..وانظر الى اللوحة القديمة التي عدت اليها ..تناجيني تكفكف دمعتي تفضح اسرارها أمامي وتخبرني ان الحب هو الوحيد الذي يحيي الأموات "
وتعود كاتبتنا في موقع اخر وقصة اخرى بعنوان " حالة توجس " لترثي الحالة المزرية التي تدنى اليها العرب من تشرذم وانقسام وفقدهم لأبسط مقومات التضامن والوحدة والتفاهم ..معتدمين على الخطب والشجب والاستنكار والمظاهرات  ليجسدوا المقولة " اتفق العرب على الا يتفقوا "..تاركين مصيرهم بايدي غيرهم لتقول " ها هم سيبنون لنا الشرق الأوسط الجديد ليتوسطوا عروبتنا النازحة الى الأطراف..إلا ان الزعامة تتبني قصورا من رمال يسكنون الحمراء ويجرون بين القصرين ويعمرون الخورنق "..
وفي قصة " حنين النوق " تنتقد الوضع العربي الذي بات يعيش ويتباكى على ذكرى الأمجاد الغابرة والبطولات فيما مضى
دون ان يتخذ زمام المبادرة بيديه لينهض نحو مستقبل افضل ويرقى الى مصاف الأمم المتحضرة التي اقتبست الحضارة عنه في الماضي . لتقول : " فقررت عيوننا ألا تزور مجدا في اية رحلة قادمة وان لا تطأ مزارا لعملاق يتقزم في زمن اقزام يتعملقون "
هذا غيض من فيض الأحداث التي تناولتها الأديبة راوية في مجموعتها حيث ان كل قصة تثير فيك مزيجا من الأحاسيس والمشاعر المتداخلة ما بين الفرح والحزن وما بين الشك واليقين وما بين التشاؤم والتفاؤل وما بين الواقع والحلم ..فتصور معاناة الأهل في جمع الشمل ومعاناة الرجل العاقر الذي يتوق لخلف يخلد اسمه ..الى ما هنالك من قصص كتبت بانامل ابداع لفنانة في الكتابة ..تاركا للقارىء الفرصة في ان يجول في رحلة ممتعة فوق صفحات الكتاب..آملا للكاتبة مزيدا من العطاء الخير الذي تتوق اليه عيون اذهان قرائنا ..

والله من وراء القصد

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق