"جنائن الهستيريا" للكاتب الفلسطيني سعيد الشيخ - قصص الحطام الإنساني
القاهرة - عن “مؤسسة شمس للنشر والإعلام”، بالقاهرة، صدرت مجموعة قصصية بعنوان “جنائن الهستيريا”، للأديب والإعلامي الفلسطيني المقيم في السويد سعيد الشيخ. المجموعة الجديدة تقع في 92 صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن 12 قصة قصيرة. وسبق للشيخ أن أصدر “دماء على الظلال” (1985) و”كما تفكر صحراء” (1998) و”أقصى الحب..أقصى الموت” (2000)و" أرى صورتي في الغمام"(2919) و"ما يضر الكون لو أبقى حيا"(2012) ومجموعة شعرية باللغة السويدية بعنوان "قصائد بحدس الأمل" عام 2013.
وسعيد الشيخ، كاتب وشاعر فلسطيني، وصحفي مستقل يكتب في عدة صحف عربية ومواقع إلكترونية، وعمل في عدة مؤسسات إعلامية فلسطينية في بيروت ودمشق وقبرص.
“جنائن الهستيريا” قصص ترصد مشاهد مشحونة بالألم والمعاناة في ظروف مختلفة خارجة عن المألوف الاجتماعي. هي واقعية مرة وتخييلية مرة أخرى، بحيث لا يُستبان خيط في هذه النمطية السردية وهي تستشرف عالما من الغرائبية مثيرا للاهتمام.
أعماق اللحظة
يمضي الكاتب في مجموعته الجديدة “جنائن الهستيريا” بعملية السرد إلى حيث المصائر المتشابهة عند نقطة الهستيريا، ويتوغل في تفاصيل أعماق اللحظة المرتبكة للحالات النفسية المضطربة اجتماعيا وإنسانيا وحتى سياسيا، ليكشف لنا عن عمق أزمة الكائن الإنساني مع قضايا عصره.
لا توجد قصة بعنوان “جنائن الهستيريا” بين قصص الكتاب، ولكن مجموع القصص هي عبارة عن باقة قطفت من عالم الجنون الذي يتكوّن على إثر الصدمات. وهذه الصدمات تختلف حسب اختلاف الأمكنة، واختلاف الوظائف الاجتماعية، من صدمات الحروب، إلى صدمات الحرمان والفقدان والاعتقال والمنفى، صدمات تحيل الإنسان إلى حالات من التمزق والتشوّش الذهني حيث تتنازعه المشاعر والأفكار التي تفقده توازنه وتجعله يشعر بنفسه غريبا وضعيفا في لجّة بحر عميق تلاطمه الأمواج، وأحيانا يتحوّل هذا الكائن إلى ريشة تتطاير في مهب الريح كما انتهت أحداث قصة “زهرة الجنون".
الحضيض الإنساني
قصة “عريٌ في ظلال الدبابات” تظل الأكثر تعبيرية عن الحضيض الإنساني الذي تجلبه الحروب، فعندما تنهار المقاومة أمام همجية الغزاة، ويجد بطل القصة نفسه بلا وعي أمام موت جماعي يلمّ بأفراد عائلته من قذيفة سقطت على البيت، لا يسعه أمام هذا التمزق إلا أن يعلن جنونه أمام تقدم الدبابات إلى داخل مخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إبان اجتياح عام 1982، وذلك بخروجه عاريا من بين الدمار وكأنه بالجنون يعلن التحدي أمام أدوات العدم.
قصة “غادرنا خضر ونحن نيام”، يمكن اعتبارها تنتمي إلى أدب السجون مع تسليط الكاتب الضوء على معاناة المعتقلين أمام شدة شروط الاعتقال التي يفرضها السجّان الإسرائيلي. والهستيريا في هذه القصة لا تظل من نصيب المعتقل الذي اختفى بشكل غرائبي وفي ظروف غامضة من خيمته المنصوبة تحت الشمس، إذ أن هذه الهستيريا تنتقل إلى الجنود الذين راحوا يبحثون بلا جدوى عن آثار المعتقل المفقود، كما في حمّى التعذيب الذي سوموه لبقية المعتقلين من أجل الاعتراف بظروف اختفاء زميلهم التي يجهلونها هم أيضا، ولكن حديث الاختفاء يظل يشغلهم ويأتي إليهم بالدهشة والتحريض بالاختفاء من جحيم المعتقل.
في القصة الاجتماعية “المرأة التي أشعلت الجحيم” انهيار عصبي لامرأة لم تحمل خلال سنين زواجها، امرأة يكويها الحرمان ويدفعها إلى أن تترك بيت زوجها لتنتهي في قسم الأمراض العصبية. وتطلب من إدارة المستشفى منع زوجها من زيارتها بما يبدو كعقاب له. الزوج يعاني أيضا لأجلها ولأجل نفسه حيث ظروف الحرمان من البنين واحدة، وبقدر ما يظل هو يمتلك الإحساس بمعاناتها تقع هي تحت تأثير غياب هذا الإحساس حتى تنفصل عن الواقع. وحين يزورها عنوة في المستشفى لا تتعرف عليه، ويجدها تتخيل نفسها عزباء، وأنها على علاقة عاطفية مع سائق الإسعاف الذي نقلها من بيت أهلها إلى المستشفى.
غيبوبة وهذيان
الدرجة صفر للجنون، شكّلها الكاتب في تلك الفانتازيا التي لا تقوم على مسوغات منطقية، وهو الجنون الذي لا يعترف به الطب النفسي، ذلك المعجون بخلطة سحرية تآمرية في أكثر الأحيان، يجعل الكائن الإنساني على اتصال بقوى غيبية تسد عليه منافذ الاتصال بالواقع، كما عبّرت عنه قصة “أنا الشيخ عبد الواحد”. وما هذا إلا واحد من الجن تسلل إلى جسد إنسية وسيطر على وعيها، مما أحالها إلى حالات من الغيبوبة والهذيان، ورؤية كائنات لا أحد يستطيع رؤيتها سواها.
لا أبطال يقومون بأعمال شجاعة أو يتركون بصماتهم بالحكمة بين شخوص هذه القصص. الجنون هو البطل الوحيد الذي يتماهى مع مرايا الواقع الاجتماعي الذي يبدو غرائبيا وخارجا عن المألوف.
تتعدد أساليب السرد من قصة إلى أخرى، وإن غلب على أكثرها الأسلوب التقليدي، إلا أن للكاتب بعض المحاولات التجديدية تتصل أيضا بالفكرة، كما فعل في قصة “طيف رامبو” التي أراد منها أن تكون نصا نقديا يحمل في دلالاته الرمزية الإدانة للسياسة الأميركية تجاه العالم العربي.
نبضُ ذاتٍ يفسّخها الأنين والتأوّه، يوميات محطمة تحت مظلة اليأس، وسِيَر أفراد مشحونين بالألم والقلق والخيبة، مما أوصلهم إلى الحضيض. أرواح منشطرة أمام مرآة تنقلب على الواقع والمنطق وتلعب بالعقل، لتقوم أحداث تزلزل الإحساس الإنساني بما يجعل الحياة تميد تحت أقدامهم.
في “جنائن الهستيريا” اشتغال حريص من قبل الكاتب سعيد الشيخ لتقديم عالم قصصي متكامل، لم يسمح به للعفوية الاقتراب من المناخ العام للقصص، أو لعوالم أخرى من غير عالم الجنون أن تحتل حيّزا في الكتاب، كي يتفرد بهذه التحفة الأدبية المشغولة بكل تقنية وحرفية، تظل جديرة بالقراءة والدراسة.
إن قارئ هذا الكتاب لن يجد صعوبة في التعاطف مع شخصيات القصص، إنهم مجرد ضحايا جديرين بالتعاطف!