عكا.. بين حفظ دماء شبابنا وأبنائنا.. وبين تسجيل المواقف والنقاط
2008-10-22 15:41:24
مع مرارة وصعوبة الأيام والليالي التي مرت على مدينة عكا في الأسبوعين الماضيين، إلا أن هناك أبوابا من الآمال وبوابات من الفوائد والإيجابيات قد فتحت لنا، وما كانت لتفتح حتى لو أنفقنا ما في الأرض جميعا. ومن أهمها فتح ملف الإنسان العربي الفلسطيني الذي صمد في بيته وأرضه ووطنه، وهو يعيش اليوم في ظل الحكم الإسرائيلي في دولة إسرائيل، لكنه لا يعرف حتى كتابة هذه السطور ما هو مصيره وما هي أهدافه وتطلعاته المستقبلية في الوقت الذي لا يحظى في هذه الدولة بالحقوق كمواطن متساوي الحقوق مع من يحكمون البلاد والعباد. وفي نفس الوقت لا نجد نحن المواطنين العرب في هذه الدولة الاهتمام والرعاية وحتى مجرد لفت النظر إلينا من قبل قادة وشعوب العالم العربي والإسلامي رغم كوننا نشكل 20% من مواطني وسكان دولة إسرائيل التي لا تكف عن الدراسات والأبحاث التي ما تفتأ تدرس عددنا ومساحة أراضينا وخطرنا عليهم، وكيفية التضييق علينا وحصارنا بجميع الأساليب الممكنة، وغير ذلك من الدراسات التي تهدف في النهاية إلى إقامة "الدولة اليهودية الخالصة"، إلا أن الوجود والصمود والرباط العربي في مدينة عكا والمدن المختلطة خصوصا وفي باقي البلدات العربية عموما، يحول بين تلك الدراسات وبين تحقيق الحلم الإسرائيلي اليهودي.
وما أحداث عكا إلا دليل واضح على عمق الأزمة والصراع المحتدم بين الحلم الإسرائيلي وبين صمودنا وثباتنا ورباطنا في أرضنا. ولذلك وجدت من الضروري بمكان أن أؤكد على أن مجرد وجودنا في هذه البلاد هو مصدر قلق وتهديد استراتيجي للحلم الإسرائيلي، كما وصفنا العنصري "أفيغدور ليرلمان" الذي أجبر حكومة أولمرت على تشكيل وزارة جديدة يقف هو على رأسها تحت اسم وزارة التهديدات الاستراتيجية.
إذا كان غيرنا ينظر إلى وجودنا بهذا العمق وهذه الخطورة فإن ذلك يوجب علينا أن نضع لأنفسنا الخطط والبرامج والوسائل والدراسات التي ترسخ هذا الوجود وتطوره، بالإضافة إلى تعريف كل رجل وامرأة وطفل عربي في هذه البلاد أن هذا الوجود هو أحد الأهداف الأساسية والاستراتيجية التي نتطلع إليها، مما يوجب علينا كقيادة إعداد المواد المكتوبة والمسموعة والمرئية التي ترسخ حب البلاد والأرض والبيت وكل معالم رباطنا في هذه البلاد في قلوب وعقول أهلنا وأحبابنا.
ومن هنا، أريد أن أشيد بكل فخر واعتزاز بتعامل القيادة العربية المحلية في عكا مع الأحداث الاخيرة والتي سعت إلى تفويت الفرصة على المعتدين من العصابات التي جاءت من المستوطنات لفتح باب لصراع لا يصب في نهايته بمصلحتنا، كما استطاعت تلك القيادة، والمتمثلة بأعضاء البلدية العرب وأئمة المساجد وقادة آخرين، وقد شرفني ربي أن أكون من بينهم، أن تكسب المعركة الإعلامية وتحويل وسائل الإعلام العبرية من محرضة علينا نحن العرب في اليوم الاول، إلى إعلام دافع عن موقفنا وبيّن أننا معتدى علينا ولسنا معتدين.
كما أثبتت تلك القيادة أنها قادرة على ضبط الشارع العربي بعكس القيادة اليهودية الضعيفة التي اختفت عن الساحة، بقصد وإصرار، ظنا منها أن الشارع اليهودي الثائر سيلقن الشارع العربي درسا لا ينسى، ولكن السحر انقلب على الساحر، حيث استطعنا ملء الفراغ الذي تركته القيادة اليهودية بتوجهنا إلى الجمهور اليهودي مباشرة ببيان إعلامي يدعو للتهدئة وإعادة الأمور إلى سابق عهدها. لقد عاش أهل عكا ومعهم قادتهم ظروفا وأوضاعا كشّر فيها أولئك الأشرار عن أنيابهم وأزالوا فيها القناع عن وجوههم، الأمر الذي جعلنا في عكا نجتمع ونفكر ونخطط للخروج من تلك الأزمة بأقل الخسائر والأضرار، فضبطنا مشاعرنا وعواطفنا وأطلقنا العنان للعقل والمنطق والواقع، رغم أننا نعيش في ظل حصار واعتداء وإغلاق لجميع المنافذ والمداخل لعكا، فكانت إحدى أفكارنا ان نخاطب الشارع اليهودي الذي غابت قيادته كما ذكرت ذلك سابقا. فأعددنا لذلك بيانا باللغة العبرية، ولأهميته ولكثرة اللغط الإعلامي الذي صاحبه خاصة في الوسط العربي، رأيت من المناسب أن أرفق البيان كاملا، حيث جاء فيه:
(للجمهور اليهودي في عكا: في ظل الأحداث الأليمة في عكا في الأيام الأخيرة نريد أن نتحدث إليكم من القلب إلى القلب. إن العلاقات المتبادلة والجوار الحسن بين العرب واليهود في عكا مهمة وغالية علينا، مما يوجب علينا أن نحافظ عليها وأن نعيد الامور إلى نصابها.
نحن نرفض كل تصرف وعمل يقصد التحدي والاستفزاز في يوم الغفران وغيره. وإننا في كل أيام الغفران السابقة احترمنا بإرادتنا ومن باب احترام المشاعر وقدسية هذا اليوم عند اليهود وامتنعنا بغالبيتنا عن سياقة السيارات في الأحياء اليهودية. وإننا نأسف على ما حصل في يوم الغفران الأخير من سياقة السيارة في الحي اليهودي، ولكننا نرفض بشدة ردة الفعل المرفوضة من أساسها من قبل اليهود ضد السائق.
وإننا نستنكر بشدة تحطيم واجهات المحلات التجارية في شارع "بن عامي". كما أننا نستنكر بشدة كل أولئك الذين انتقموا من الأبرياء الآمنين في بيوتهم من العرب، فحرقوا البيوت وروعوا الآمنين.
إننا ننادي كل من يحب مدينة عكا إلى ضرورة أن يجلس الطرفان مع بعضهم البعض، وبدون شروط مسبقة، لإعادة الحياة إلى سابق عهدها ولإعادة الاطمئنان إلى قلوب جميع المواطنين، وإن هذه المرحلة تحتاج إلى أن تتجلى روح المسؤولية، لأن العاصفة إذا نشبت لن تفرق بين إنسان وآخر.
الموقعون على البيان: النائب الشيخ عباس زكور، الشيخ محمد ماضي إمام مسجد الرمل، أسامة غزاوي نائب رئيس البلدية، سليمان وشاحي عضو البلدية، أدهم جمل عضو البلدية، سليم نجمي عضو البلدية، الإعلامي زهير بهلول، أحمد مرسي رئيس لجنة التجار في شارع بن عامي، توفيق جمل من لجنة حي فولفسون وهو سائق السيارة التي دخلت الحي اليهودي، حسن عرابي من لجنة حي فولفسون، د. بدران أحمد).
إلى هنا نص البيان الذي خاطبنا به الشارع اليهودي، والذي يمكن القول أنه كان البداية لهزيمة القيادة اليهودية إعلاميا ثم لهزيمتهم على جميع المستويات، حيث اجتمعنا بهم في نفس الليلة في بيت رئيس البلدية، وقد انفض الاجتماع بعد لحظات قليلة من بدايته بسبب الأقوال العنصرية التي صدرت عن الراف الرئيسي لعكا الذي وصفنا بالنازية، وقد كتبت الصحافة العبرية في اليوم التالي هذه الحقيقة مؤكدة أن الاجتماع انفض بعد هذه الأقوال المسيئة من الراف، وأن القيادة العربية بالمقابل بادرت لمد يد الصلح وأصدرت البيان المذكور.
بعد مرور أربعة أيام من الأحداث، ولأول مرة، نرى قائد المنطقة الشمالية في الشرطة يخرج ببيان لوسائل الإعلام يقول فيه أن المواطنين العرب خارج صورة العنف والمواجهات، وأنهم ملتزمون بالتهدئة، وأن الذين يبادرون لأعمال عنف وزعرنة هم فقط من المواطنين اليهود.
إنني ألوم كل من قام بالتحريض من داخل الوسط العربي على الاخوة الذين وقعوا على إصدار هذا البيان وحاولوا التشكيك في وطنيتهم وإخلاصهم لمدينتهم، وتحويل موقفهم القوي والقيادي والإداري الناجح في ظل الأزمة التي كانت، إلى مجرد موضوع اعتذار وتأسف في غير محله، حيث بدأ بعض "المتفلسفين" يناقشون البيان حتى دون قراءته، وإنما لمجرد أن أحد المراهقين سياسيا لم يعجبه البيان.
إن الموقف القيادي المسؤول في عكا هو وضع مصلحة المواطنين العرب في المدينة وحفظ وجودهم وأمنهم وسلامتهم وحقن دمائهم، في رأس سلم الأولويات، وتقديم كل ذلك على المصلحة الشخصية الضيقة، وعلى الحصول على عناوين رنانة في الصحف والفضائيات. لقد أدركت القيادة المحلية العربية في عكا أن تسجيل المواقف الفارغة من المضمون لم تعد تجدي نفعا، تماما كما لم تجد صرخات الصحاف وقيادات صدام حسين قبل انهيار العراق واحتلاله.
إن الذي يدرس التاريخ جيدا ليتعلم من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصل إلى مكة المكرمة ليعتمر، فمنعه أهل مكة من الدخول إليها، ووافق على العودة إلى المدينة ومعه ألف واربعمائة من المسلمين، بعد أن وصلوا إلى مشارف مكة وقد هيأوا أنفسهم للعمرة، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار صلح الحديبية الذي اعتبره عمر بن الخطاب "إعطاء الدنيّة في الدين" وتراجعا عن الحق، إلا أن هذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بداية لنصر عظيم وفتح مبين كما وصفه الله تعالى.
ولقد انسحب خالد بن الوليد في معركة مؤتة ومعه ثلاثة آلاف مقاتل، مقابل مائتي الف مقاتل من الأعداء، فاستقبله أهل المدينة وفتيانها بقولهم له ولمن معه: يا فرار، يا فرار. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد الأعظم: بل هم الكرار.
وهذا عبد الله بن حذافة الذي وقع في أسر الروم مع مجموعة من المسلمين، فصمد أمام التعذيب والإغراء هو ومن معه، إلى أن جاء قائد العدو بقدر يغلي زيتا، وبدأ يلقي بالمسلمين واحدا تلو الآخر من أصحاب عبد الله بن حذافة، حتى بكى عبدالله، فظن قائد العدو أن عبدالله سوف يتراجع ويرضى بترك دينه واتباع أوامر قائد العدو، فقال عبدالله: إنما أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تموت في سبيل الله، فتمنيت لو كان لي مائة نفس تموت واحدة بعد الأخرى. وعندما رأى منه هذا الإصرار وهذه العزة قال له قائد العدو: ما رأيك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك؟ فقال له عبدالله: واخواني. فقال: نعم. فقبّل عبد الله رأس قائد العدو، وعاد عبدالله ومن معه إلى المدينة. وعندما قص الخبر على الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب الذي عرف بشدته وعزائمه، جمع الناس وقص عليهم القصة، وقال لهم: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس ابن حذافة، وأنا أول من يقبّل هذا الرأس.
نعم، مجتمعنا العربي في إسرائيل، وفي هذه الظروف الحرجة التي يعيشها، يحتاج إلى قيادة حكيمة وواعية "لا تبحث عن عنوان في صحيفة"، ولا تراهن وتغامر بدماء وحياة شبابنا، وإنما تسير بهم كمن يسير بين الشوك ونقاط المطر، لتصل بهم إلى شاطئ الأمان وبناء المستقبل والحرية والحياة الكريمة، بأقل الخسائر والتضحيات.
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق