كميل شحادة :كيف نفهم مسألة التحرر من جدل الأضداد ؟
2012-02-19 14:05:00

من العسير حشد كل ما يمكن قوله في موضوع الكشف والتحقق العرفاني بأي حال، فكيف في مقال .؟ ولهذا أحاول متابعة الموضوع من حيث رأيت وجوب المتابعة لسد ما يمكن سده في ذلك منذ 1981 أي منذ فتح علي بالكشف والاستنارة .. ولا أدري إلى أي مدى تحقق عملة هذا الطرح صرفا في العقل المتلقي ، ولا أدري في أي القلوب ستقع بذار هذا الطرح .. مع ذلك سأدع الأنامل تجري على حروف الطبع دون حساب " فإن يهدي الله بالإنسان رجلا واحدا ، خير له مما طلعت عليه الشمس" .. وبعد ان الحديث عن الخروج من صراع الأضداد الطبيعي والاجتماعي أمر لا يخطر على بال معظم الناس ، وقد يشط المتلقي عند قرائته النص في شتى التفسيرات البعيدة عن المقصود ، ومنها ان يعتقد أني أدعوه لترك الحياة والالتحاق بالأموات عن طريق الانتحار ربما .. أو أقل من ذلك،ان يقبع في وعي مجرد، بعيد عن كل أسباب الحياة البيلوجية والاجتماعية .. طبعا ليس ذانك هو المقصود . وسوء التفسير والفهم بكل الأحوال ، يرجع إلى علة انغمار الناس عمومًا في حياتهم وفي معاشهم وعقائدهم وفي مختلف نشاطاتهم ، تحت سطوة جدل الأضداد نفسه،الذي من داخل قوالبه وإشراطاته الطبيعية والاجتماعية، يفكر الإنسان  ويُنتج كل ما يؤمن به  ويراه ويختاره ،وكل ما يفعله جميعا جزء لا يتجزأ منه  ومن وحيه ، منذ ان نزل أو صعد إلى الحياة ، روحا في حجاب مركب من ثنائيات وازدواجيات متضادة ، هو رهين هذا الجدل ، كقانون يتجسد في حركة الطبيعة ، ويتجلى في تفاعل الإنسان بها ، حتى ليبدو الإنسان، سواء كان – أفردا أو جماعات – لعبة تركيب وتفكيك بين مختلف ثنائيات التضاد المتجاذبة والمتنافرة، داخل حلقة مغلقة خالدة من تبادل الأدوار عبر الأجيال ..  لقد غزا الكثير من الفلاسفة معنى ، أو المعاني المختلفة لوجود الإنسان ، إلى هذا الصراع  نفسه ، فبدونه لا معنى ولا قيمة ،وربما لا حياة أصلا لوجوده .. فالليل لا يكون ليلا إلا بما يقابله ويزايله من نهار وبالعكس. وعلى هذا القياس جميع المتضادات الطبيعية العضوية والإنسانية ، المادية منها والعقلية والنفسية .. إذن لماذا نحاول الخروج من هذه المعادلة ومن شرعتها الطبيعية ، وهل ذلك ممكنا ..؟  لماذا لا ندع الزمن يفعل بنا ما يشاء ، لماذا لا نستسلم لكل ما يصيبنا  - سواء بإرادة أوبغير إرادة منا – .. ؟ أقول ان مجرد طرح  إشكالية وجودنا بهذا العمق ، وبهذه الحساسية وبهذه الشمولية ، ما يشي ويشير إلى حقيقة ذاتية ما تختلف بالماهية والجوهر عن طبيعة هذا العالم الصراعي ، وان توق كل إنسان للكمال وللجمال وللخير ، بصفة مطلقة يؤكد تلك الماهية والجوهر . ولا يوجد دليل أوضح للعطشان في الصحراء على وجود الماء  من عطشه ذاته . ان الإنسان ما زال منذ وجد - إلا المستنيرين المتحققين منهم – يلاحق حريته وسعادته في غير حقيقتها ومكانها ، كالعجوز التي رآها متبصر تبحث عن إبرة في ساحة منزلها ، فلما سألها : أين أضعت إبرتك ؟ قالت في غرفة النوم ، ولماذا تبحثين عنها في الخارج ؟ قالت :لأنه لايوجد ضوء في الداخل .. هكذا هو شأن الإنسان مع مطلوبه الحقيقي عبر التاريخ ، لقد ضل عن توجهه الصحيح .. من مهام هذا الكلام هنا أصلا هو إيقاظ عطاشى البشر على حقيقة عطشهم من جهة ، وعلى حقيقة وجودهم الثرة المتدفقة بالكمال والجمال والخير ، ليل نهار ، فيما يتعدى جميع صحاري الجهل والغفلة  والبؤس والعطش ، والجوع  والفقر والصراع .. صراع بين العقائد وصراع بين الأيديلوجيات وصراع بين النظريات والسياسات ، بين الشركات ، بين المهنيين ، بين المثقفين إلخ . جميعها يجري على ذات المحور من "الإيغو سنتري" الشخصي للأفراد وللجماعات ، وان لبس هذا الصراع أقدس الصفات . انها الطاقة الحيوية الخالدة عبر الأجيال ، ضائعة بعيدا عن تقدير الإنسان الجاهل بها في هلاك مجاني .. إذن هو إذكاء الوعي وإيقاظه في جوهر وجوده ، حيث لا يتم ذلك بالرجوع لعقيدة أو فلسفة ، إذ ان حقيقة الوجود ليست عقيدة ولا هي فلسفة ولا هي كتاب مقدس ، ولا تدرك بطقوس وصلوات ، ولا بتفكير وتحليل .. نحن لا نستطيع التفكير في الحب ، أو في الله أو في الحرية أو في الأبدية ،وهي أسماء لمعنى بعينه ،يقبع في صميم كل إنسان.. والتفكير - بغض الطرف عن مستواه وموضوعه - هو زماني حركي تداعيي ، موضوعه مجردات جزئية مرتبطة بالزمان قسرا وبالموضوعات المكانية عموما ، بما في ذلك تجارب علماء المادة المخبرية ، وكل ذلك جار في ظلمة الحجاب الفكري الحسي ، الذي يجزيء أحدية الوجود في الوعي لثنائيات مغرِّبه . أولها  أنا وأنت ،ذات وموضوع،ثم  خالق ومخلوق ، دنيا آخرة ، طبيعي ما ورائي   ، هي  ِقطع وصفات وأسماء ولغات وأنواع وأجناس إلخ ،جميعها كحطام جليد  في أقيانوس غير محدود  .. لقد وصل بعض علماء الفيزياء قريبا من نتائج الكشف الروحي بتحليلهم الأخير للطاقة والمادة غير المنفصلتين . لكن بقيت وحدة وجودهم حصرا في المجال الحسي . يقول بعض المتبصرين الروحيين – جيدو كرشنا مورتي ،المتفق بذلك مع عالم الفيزياء بوهن - ان الوعي بتحوله لبصيرة داخلية قوية فإنه يؤثر في خلايا المخ ويحولها عن النماذج والقوالب السيكلوجية والعقلية ،التي كونها لتلائم أوضاعه وحاجاته المادية والاجتماعية عبر العصور الماضية ، وهو في محطات تاريخية مختلفة ، يتبنى أفكارا جديدة، تتحول بمرور الوقت لنماذج لا واعية تدفعه للسير بمقتضاها وحسب مضامينها . لكن إيجاد أفكار جديدة ومفاهيم جديدة لا يعني سوى الخروج من قوالب ونماذج ودخول في أخرى من نفس الطبيعة الناقصة المولدة للشعور بالروتين والحاملة لنفس أسباب العذاب والصراعات القديمة ذاتها ، بينما التغيير الجذري في الإنسان ، كما يثبت التاريخ ، لا يتحقق بكثرة التعليم والترقي فيه نظريا وتنخنلوجيا ، وبتحسين ظروف المعيشة ،ولا يحصل بالإيمان بعقيدة منسجمة متكاملة ضد عقائد أخرى، بل في الخروج من جميع القوالب والنماذج القابعة في الوعي وفي اللاوعي ، أي السمو والتحرر من العقل نفسه كمصدر للتفكير ،لأن كل فكرة عبارة عن قالب لمعنى وتحديد لصفة وخلق لفكرة أخرى في سلسلة لا تنتهي بين كل لحظة وأخرى ، وهذه الحركة الذهنية التي تخلق دائما أجواءها النفسية والحسية في محيطها ، لا تمكننا من الكشف عن حقيقة وجودنا كبساطة لا تتجزأ ولا تتغير خلفها  ..  ان الوعي بحقيقة وجودنا في الداخل ، يقتضي ترك المرجعيات المختلفة – دينية ودنيوية - كي يتمكن الوعي من كشف حقيقة وجوده في ذاته وفي انعكاساته  ، دون وسائط وإملاءات  .. بعد ذلك يعود لينسجم مع كل شيء ، إذ يجد ذاته في كل شيء .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق