رسالة إلى الحكّام العرب -بقلم: المحامي جريس بولس كفرياسيف- فيينا.
2012-01-15 22:24:08

 صاحب الجلالة، صاحب السموّ، صاحب السيادة، صاحب الفخامة، حفظكم الله للألقاب الفارغة، حفظكم الله للمناصب ألزائلة.

أمام ما واجهنا في لبنان من مآسٍ وفواجع كِدنا ننسى أنكم موجودون. قد شاهدتم بأمّ العين الاطفال يسقطون تحت نيران الهمجيّة الإسرائيليّة، وكذلك النساء والشيوخ والعجزة، وما أبديتم حِراكاً.

سمعنا منكم لوماً على أسر جنديّين إسرائيليّين، أما ما كان اللبنانيّون يتعرضون له من إعتداءات إسرائيليّة، فلم يكن يلقى منكم أيّ إعتراض أو إحتجاج أو تحرّك.

أمّا أن تكون أرض لبنانيّة ترزح تحت الإحتلال خلافاً لقرارات الشرعية الدولية فأمر لا يعنيكم. أما أن يكون في معتقلات إسرائيل أسرى لبنانيّون وفلسطينيّون فأمر لا يستحقّ منكم إلتفاتة.

صحيح أن حزب الله أسر جنديّين على أمل مبادلتهما بأسرى لبنانيّين. لو استجابت إسرائيل لما كان كل ما كان من إبادة ودماء في لبنان. وإسرائيل لها تاريخ طويل في مبادلة الأسرى بالأسرى والأسرى بجثث. كانت عمليات تبادل متكرّرة مع لبنان ومع فلسطين. أنتم لا تكلّفون أنفسكم عناء التساؤل: لماذا يا ترى أجازت إسرائيل التبادل مرّات متكرّرة وأبت التبادل هذه المرة فقط؟ ألا يوحي هذا اليكم يا اصحاب العروش والقصور والدواوين ان أسر الجنديين لم يكن سوى ذريعة مكشوفة، ولو لم تكن لاختلقت إسرائيل سواها، فتدمير لبنان وإبادة شعبه مشروع مبيَّت ومعدّ مسبقاً.

كدنا ننسى وجودكم أيها الحكام العرب لو لم يذكرنا بكم إيهود أولمرت وقت حرب تموز إذ قال ما حرفيَّته: "إنه يرحّب بالدعم الدولي غير المسبوق وبمساندة الدول العربيّة التي اتخذت للمرة الاولى في إطار مواجهة عسكريَّة بيننا وبين عرب، موقفاً ضد منظمة عربيّة".

وكان هذا الوحش المسعور قد ذكر في الأيام الأولى من هذه الحرب الطاحنة، هذه الحرب التي طحنت الانسان في لبنان وكل معالم الحياة، إن أحدكم أيّها الحكام العرب كتب اليه يشجّعه على عدم التوقف حتى القضاء على لبنان.

انتم جبناء إذ تأخذون بمبدأ "الحق للقوة". وكان يجب أن تدركوا من واقع تجاربكم مع المحتل الغاصب ان هذا المبدأ إنما يعني ان الحكم هو للقوة ولا مكان للحق. أنتم جبناء، فلا تتجرأون على عدم الامتثال لأوامر، لا بل لإملاءات، الدولة العظمى.

فهي لم تسمح لحكّام لبنان آنذاك بتقديم شكوى ضد إسرائيل على كل اعتداءاتها على اللبنانيّين، ولا حتى على شبكات التجسّس التي زرعتها في أرض لبنان فارتكبت أبشع الجرائم. وهي لم تسمح لكم بمطالبة مجلس الأمن بإتخاذ قرار بوقف إطلاق النار ووضع حد للمجازر التي ترتكبها إسرائيل، ربيبة الدولة العظمى وشريكتها في جرائمها في حقّ الانسانيّة.

لا بل لم تسمح لكم بعقد مؤتمر قمّة للإعراب عن وقوف الامّة إلى جانب لبنان في محنته وإتخاذ ما ينبغي من خطوات عمليّة وجديّة لنجدته وإنقاذه.

أنتم جبناء. ونحن إذ نطلق عليكم هذا الوصف إنما نتوخّى أن ندرأ عنكم نعوتاً اخرى يكيلها آخرون إذ يتهمّوكم بدعم العدوان أو التواطؤ معه.

الا تدرون أيّها الحكام العرب ان في الافق مشروعاً، اختطته الدولة العظمى، بالتواطؤ مع دول كبرى، ومن ورائها جميعاً الصهيونية، عنوانه الشرق الاوسط الكبير، وان الطريق الى تحقيقه أدهى وأعظم بلاءً عنوانه "الفوضى"، ويسمونها ويا للمفارقة، أحياناً "بنّاءة" وأحياناً "خلاّقة".

الشرق الأوسط الكبير، كما تعلمون، يرمي الى القضاء على العروبة نهائياً، فلا يبقى منها ما يهدّد الدولة العظمى في مصالحها وأطماعها، أو ما يبقي على أمل بتحقيق الحلم العربي في فلسطين، مهما نأى مناله، أو ما يبقي على نذر من القلق في نفوس الصهاينة على مصير دولتهم.

يكون ذلك لمجرد ان امتداد الشرق الأوسط يسلخ بعض العرب عن العرب، إذ يقتطع عرب شمال افريقيا من الامّة العربية، كما انه يضم بعض غير العرب الى العرب، من مثل تركيا وإيران وقبرص ومعها إسرائيل. فماذا يبقى من العروبة؟

العروبة كانت، وما زالت هاجس الدولة العبريّة منذ ان كانت، وتجسّد هذا الهاجس يوماً في قيام جامعة الدول العربية، ثم اشتد أواره بسياسة الرئيس جمال عبد الناصر، لم يخفِ على الدولة العبرية أن العروبة وبقاء إسرائيل، في نهاية التحليل، لا يأتلفان. فكان أن أغتيل مشروع عبد الناصر، وكان أن دُسّ السم في جسم الجامعة العربية (اليوم أخذت إسماً جديداً "الجامعة العبرية") فأخذ الوهن يدبّ فيه الى أن أضحت وكأنها لم تكن. قراراتها تتّخذ بالإجماع، ولا إجماع على أمر خطير. وان اجتمعت على مستوى القمّة فالغياب ناطق بليغ والغائب الحاضر هو إرادة الدولة العظمى، تقتحم طاولة المؤتمر عبر هذا أو ذاك من أعلام العرب، كما جرى مؤخراً في قرارها ضد سوريا الذي لم يتّخذ في الإجماع.

وهناك الكثير الذين يشاركون الدولة العظمى ومن ورائها إسرائيل في مشروع الشرق الاوسط الكبير او الجديد أمثال تركيّا ودول الخليج والحركات الاصوليّة الاسلاميّة "والإخوان المسلمين" أو بما يسمى بالاسلام السياسيّ او الاسلام العلمانيّ، الذي نجح وللأسف في كل من مصر وتونس وليبيا. فتركيا، التي تربطها مصالح قوية مع الغرب، والمتحالفة عسكريّاً وسياسيّاً وماليّاً مع اميركا واسرائيل، قامت ومعها قطر (التي على أراضيها تقع أكبر قاعدة عسكريّة اميركيّة) بشن حملة إعلاميّة قويّة ضد اسرائيل وقت حرب غزة كي تكتسبا الشرعيّة وتدخلا العالم الإسلاميّ والعربيّ كأنهما المنقذتان للعروبة وللاسلام ولكن في المسألة السورية بانتا على حقيقتيهما بالتواطؤ مع الدولة العظمى واسرائيل وتقومان بدور فعّال بتفتيت العالم العربي وتدميره كي يصب الأمر في مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وأيضاً الحركات الأصولية او الإسلام السياسيّ او الإسلام العلمانيّ له دور مع أميركا واسرائيل في مشروع الشرق الاوسط الجديد، حيث انه مدعوم من اميركا واسرائيل وبأموالٍ عربيّة خليجيّة كي يسيطر على الدول العربية كما في مصر وتونس وليبيا وكما يراد لسوريا، لذا لا عجب حين نسمع تصريح الغنوشي في تونس انه يرحب بإقامة سفارة اسرائيلية في دولته وتصريح الاخوان المسلمين في مصر في الحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد وأيضاً في إبقاء السفارة الاسرائيليّة في مصر.

هذا بالاضافة ان اميركا معنيّة في ترسيخ قوة هذه الحركات الاسلاميّة كي تقف بالمرصاد ضد القوة الشيعيّة في المنطقة وأيضاً ضد مشروع القوميّة العربيّة والمقاومة والممانعة المتمثل في الأساس في سوريا وحزب الله.

كفرنا، في غمرة المحنة التي تلفنا، بالقيم الحضاريّة والانسانيّة التي تتشدّق بها الدولة العظمى، إذ تتغنّى بالحرية والديموقراطيّة والعدالة وسائر حقوق الانسان.

المحن في العراق والسودان ولبنان وفلسطين وسوريا وليبيا وغيرها هي ابلغ شاهد على زيف هذه القيم التي باتت مجوّفة من معانيها. ولكننا أيّها الحكام العرب مهما فعلتم، كيفما تصرفتم، مهما تخاذلتم، مهما تواطأتم، فلن نكفر بعروبتنا.

فالعروبة تبقى أعزّ القيم على أنفسنا. والعروبة هي هدف المشروع الذي تتبناه القوة العظمى التي ترهبون والتي تدينون لها بالولاء لا بل بالطاعة العمياء. ما يسمّى الشرق الاوسط الجديد انما يرمي الى القضاء على العروبة نهائياً وتسليط اسرائيل على المنطقة بأسرها.

وأنتم في تخليكم عن لبنان والعراق وفلسطين وليبيا وسوريا وغيرها في محنها، شركاء في هذا المشروع المشؤوم.

حكم التاريخ لا يرحم، وكذلك حكم الشعوب ستندمون ولات ساعة مندم.     

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق