عندما كانَ يصيحُ بصوتِهِ العذبِ الممطوطِ المترنم وبنغمتهِ الشجيةِ ذاتِ الأيقاعِ المشنفِ للآذانِ والأحساسِ, التي تُخفي معظَمَ الحروفِ ولا تبينُ من المناداةِ سوى حرفَ الباء المشَدّدّةِ المُضخمةِ , نغمةٍ كانت تجتذبُ السامعَ من أترابِنا الى دنيا أخرى , وتَجدُنا مشدودين الى عذوبةِ ذلك الصّوت , والى ما كان يبعثُهُ في نفوسِنا من شَجَنٍ , يجعلُنا نتعاطَفُ معه ونحبٌهُ قبلَ أن نراهُ ( والأذن تعشق قبل العين احيانًا ).
في البدءِ وعندما سمعتُ ذلك الصوتِ ركضْتُ الى والدي أسألُهُ :
ما الذي يقولُهُ هذا الرجل يا أبي؟
فأجابني :
أنه ينادي على العنبر.
فأصْغَيْتُ لبقيةِ ندائه الملفتِ للأنتباه .
هَيّاني يا حبيبي هَيّاني...... طَعْمِ وريحَه يا عَنْبًرْ.....عَنْبّـــــــــــــــــــــــــــــر .
أخذتُ من والدي خمسةَ قروشٍ وركضتُ اليه بفرحةٍ غامرةٍ لأشتريَ اصبعَ عنبر .
وما أن رآني مهرولاً نحوه ملوحا بيدي التي تحمل القروشَ الخمسةَ , حتى بدأ يُهَلّي ويرحبُ بقدومي وكأني ضمنُ مجموعةٍ من الصبيةِ نتزاحَمُ على عنبرهِ للفوزِ بالمكانِ الأولِ , مُرَدّداً بأنشاد :
بالدور يا حبيبي بالدور.... لا تتزاحموا ...الخير كثيـــــــــــر.
ينتهي اصبعُ العنبر سريعاً , فأعدو هذه المرهِ لوالدتي متوسلاً أن تعطيني خمسةَ قروشٍ أخرى لأشتريَ فتقول :
كُثْرَتُهُ مُضْرَّهٌ لك .
لا أقتنعُ وأبدأُ بالنَّق مفتعلاً البكاءَ , وحيثُ أنَّ والدتي لا تملك نقوداً فتناولُني بيضتين من القنِّ آخذهُما وأسْرِعُ اليه .
إنه شيخٌ في الستينيات مِنَ العمرِ يُثبِّت بين خاصرتِهِ ويدِهِ اليمنى طبقاً خشبياً عليه يَضَعُ اصابعَ العنبرِ , وبيده الأخرى يحملُ منضدةً مطويةً, يستعملُها لوضعِ الطبقِ فوقَها عند البيع أو الأستراحة .
بالأضافة لعذوبةِ صوتهِ وشجيةِ لحنهِ , وابتسامتِهِ الساحرةِ الرائعةِ الملازمةِ لِوَجْهِهِ , كان بائعُ العنبر غايةً في النظافةِ والترتيبِ , يلفُّ بضاعَتَهُ من أصابعِ العنبرِ ويغطيها بشاشٍ ناعمٍ ناصعِ البياضِ , وكل ما يلبسُهُ نظيفُ وابيضُ :
* الحطهُ التي" يَتَكَرْدَنُ " بها ويتركُ لها طرفًا ملفوفًا بعنايةٍ خلفَ رأسِهِ,
* قُمْبازُهُ الذي يَشْكُلُ حافتيهِ تحتَ حزامِهِ عندَ خاصرَتَيهِ ,
* مَريولُهُ الذي يُعَلِّقُ به منشفةً مبلولةً ليمسحَ اصابعَهُ بعدَ ملامَسَةِ العنبرِ, * وحذاؤه المصنوعُ من القماشِ والمطاطِ .
كل شيء أبيض نظيف
على وجهه نبتَتْ شعيراتٌ بيضاءُ في ذقنِهِ منحتْهث وقارًا وهيبةً
خاصّة , لم نَرَهُ مُقَطِباً وجهَهُ أبداً , لم نخشَهُ قَط , نتجمعُ حينَ نسمعُ نداءَه ونشاركُهُ فيه ,ونتابعُهُ بين أزقَّة حارتِنا , ونلتهي بتقليدِهِ , وكنّا نُحِبُّ عنبَرَهُ اللذيذَ المعطرَ بماءِ الزهرِ والوردِ , والذي لم يضاهيهِ أي نوع من السكاكرِ والحلوياتِ , وكنا للذةِ طعمِهِ نضَنُ به على أيِّ مخلوقٍ .
يوماً بعد يومٍ اعتدناهُ وألفناهُ وأطلقنا عليه اسمَ (عمْ أبو رتيب ) ,رَغْمَ أنَّ أحداً لم يخبرنا بأسمِهِ , ولكن سَرَتِ الشائعهُ , لا ندري مَنْ أطلقها أن أسمَهُ عمْ ابو رتيب , ما أكَدَها أننا صِرْنا نناديه بهذا الأسم فلا ينكرُ ولا يؤكدُ , ربما كان اسمُهُ فعلاً عمْ أبو رتيب , وربما وجدَ من العبثِ التحاورَ معنا نحن معشرَ الصبيةِ.
تمرُ الأيامُ وهو كما عهدناهُ , بنفسِ الهيئةِ , ونفسِ الملابسِ التي فَعَلَ بها الزمنُ فعلَهُ, ونفسِ الطبقِ والمنضدةِ , ونفس المناداةِ .
ثم افتقدناهُ ..... وتساءلنا عنْهُ فلم يجئْنا خبرٌ عنهُ .. انه غريبٌ عن قريتِنا , لا أحد يعرفُهُ ...ونحنُ لا ندري هل افتقدناهُ هو ام افتقدنا عمبَرُهُ الذي لم يعوضْنا عنه شيءٌ . ... حتى سمعنا يوماً نداءاً يشبِهُ نداءَهُ , لكن هذه المرةِ واضحُ الملامحِ , وخالي من الموسيقى :
عنبرْ ...عنبرْ يا عنابر ... طيب يا قِرْمِشْ...
ركضنا نحوَ المنادي فوجدناهُ شاباً , يحملُ صندوقاً على كتفهِ , اشتريْنا منه,وسألناهُ :
أين عمْ ابو رتيب ؟
قال متسائلا :
من عم ابو رتيب ؟
قلنا :
بائعُ العنبرِ الذي كان يحملُ الطبقَ على خاصرته.
قال :
انه ابو رشيد وليس ابو رتيب....انه والدي لقد توفاهُ الله
قلنا :
رحمةُ الله عليكَ عمْ أبو رشيد .