رحمةُ الله عليكَ عمْ أبو رشيد بقلم سامي فرّاج الرامة
2011-07-03 14:04:29

عندما كانَ يصيحُ بصوتِهِ العذبِ الممطوطِ المترنم وبنغمتهِ الشجيةِ ذاتِ الأيقاعِ المشنفِ للآذانِ  والأحساسِ, التي تُخفي معظَمَ الحروفِ ولا تبينُ من المناداةِ سوى حرفَ الباء المشَدّدّةِ المُضخمةِ , نغمةٍ كانت تجتذبُ السامعَ من أترابِنا الى دنيا أخرى , وتَجدُنا مشدودين الى عذوبةِ ذلك الصّوت , والى ما كان يبعثُهُ  في نفوسِنا من شَجَنٍ , يجعلُنا نتعاطَفُ معه ونحبٌهُ قبلَ أن نراهُ ( والأذن تعشق قبل العين احيانًا ).
في البدءِ وعندما سمعتُ ذلك الصوتِ ركضْتُ الى والدي أسألُهُ :
ما الذي يقولُهُ هذا الرجل يا أبي؟  
فأجابني :
أنه ينادي على العنبر.
فأصْغَيْتُ لبقيةِ ندائه الملفتِ للأنتباه .
هَيّاني يا حبيبي هَيّاني...... طَعْمِ وريحَه يا عَنْبًرْ.....عَنْبّـــــــــــــــــــــــــــــر .
أخذتُ من والدي خمسةَ قروشٍ وركضتُ اليه  بفرحةٍ غامرةٍ لأشتريَ اصبعَ عنبر .
وما أن رآني مهرولاً نحوه ملوحا بيدي التي تحمل القروشَ الخمسةَ , حتى بدأ يُهَلّي ويرحبُ بقدومي وكأني ضمنُ  مجموعةٍ من الصبيةِ نتزاحَمُ  على عنبرهِ  للفوزِ  بالمكانِ الأولِ   ,  مُرَدّداً بأنشاد : 
 بالدور يا حبيبي بالدور.... لا  تتزاحموا   ...الخير كثيـــــــــــر.
ينتهي اصبعُ العنبر سريعاً , فأعدو  هذه المرهِ  لوالدتي متوسلاً أن تعطيني خمسةَ قروشٍ أخرى لأشتريَ فتقول :
 كُثْرَتُهُ مُضْرَّهٌ  لك .
لا أقتنعُ وأبدأُ  بالنَّق مفتعلاً البكاءَ , وحيثُ أنَّ والدتي لا تملك نقوداً فتناولُني بيضتين من القنِّ آخذهُما وأسْرِعُ اليه .
إنه شيخٌ في الستينيات مِنَ العمرِ يُثبِّت بين خاصرتِهِ ويدِهِ اليمنى طبقاً خشبياً عليه يَضَعُ اصابعَ العنبرِ , وبيده الأخرى يحملُ منضدةً مطويةً, يستعملُها لوضعِ  الطبقِ  فوقَها عند البيع أو الأستراحة .
بالأضافة لعذوبةِ صوتهِ وشجيةِ لحنهِ , وابتسامتِهِ الساحرةِ الرائعةِ الملازمةِ لِوَجْهِهِ ,  كان بائعُ العنبر غايةً في النظافةِ والترتيبِ , يلفُّ بضاعَتَهُ من أصابعِ العنبرِ ويغطيها  بشاشٍ ناعمٍ ناصعِ البياضِ , وكل ما يلبسُهُ نظيفُ وابيضُ :
*  الحطهُ التي" يَتَكَرْدَنُ " بها ويتركُ لها طرفًا ملفوفًا بعنايةٍ خلفَ رأسِهِ,
*  قُمْبازُهُ الذي يَشْكُلُ حافتيهِ تحتَ حزامِهِ عندَ خاصرَتَيهِ ,
*  مَريولُهُ الذي يُعَلِّقُ به منشفةً مبلولةً ليمسحَ اصابعَهُ بعدَ ملامَسَةِ العنبرِ, * وحذاؤه المصنوعُ  من القماشِ والمطاطِ .
            كل شيء أبيض نظيف
  على وجهه نبتَتْ شعيراتٌ بيضاءُ في ذقنِهِ منحتْهث وقارًا وهيبةً
خاصّة , لم نَرَهُ مُقَطِباً وجهَهُ أبداً , لم نخشَهُ  قَط , نتجمعُ حينَ نسمعُ نداءَه ونشاركُهُ فيه ,ونتابعُهُ بين أزقَّة حارتِنا , ونلتهي بتقليدِهِ ,  وكنّا نُحِبُّ عنبَرَهُ اللذيذَ المعطرَ بماءِ الزهرِ والوردِ  , والذي لم يضاهيهِ أي نوع من السكاكرِ والحلوياتِ ,  وكنا للذةِ طعمِهِ نضَنُ به على أيِّ مخلوقٍ .
يوماً بعد يومٍ اعتدناهُ وألفناهُ وأطلقنا عليه اسمَ (عمْ أبو رتيب ) ,رَغْمَ أنَّ أحداً لم يخبرنا بأسمِهِ , ولكن سَرَتِ الشائعهُ , لا ندري مَنْ أطلقها أن أسمَهُ عمْ ابو رتيب , ما أكَدَها أننا صِرْنا نناديه بهذا الأسم فلا ينكرُ ولا يؤكدُ , ربما كان اسمُهُ فعلاً عمْ أبو رتيب , وربما وجدَ من العبثِ التحاورَ معنا نحن معشرَ الصبيةِ.
تمرُ الأيامُ وهو كما عهدناهُ ,  بنفسِ الهيئةِ , ونفسِ الملابسِ التي فَعَلَ بها الزمنُ فعلَهُ, ونفسِ الطبقِ والمنضدةِ , ونفس المناداةِ .
 ثم افتقدناهُ ..... وتساءلنا عنْهُ   فلم يجئْنا خبرٌ عنهُ .. انه غريبٌ عن قريتِنا ,  لا أحد يعرفُهُ ...ونحنُ لا ندري هل افتقدناهُ هو ام افتقدنا عمبَرُهُ الذي لم يعوضْنا عنه شيءٌ .  ... حتى سمعنا يوماً نداءاً يشبِهُ نداءَهُ , لكن هذه المرةِ واضحُ الملامحِ , وخالي من الموسيقى :
عنبرْ ...عنبرْ يا عنابر ... طيب يا قِرْمِشْ...
ركضنا نحوَ المنادي فوجدناهُ  شاباً , يحملُ صندوقاً على كتفهِ ,  اشتريْنا منه,وسألناهُ  :
أين  عمْ ابو رتيب ؟
قال متسائلا :
من  عم ابو رتيب ؟
قلنا :
بائعُ العنبرِ الذي كان يحملُ الطبقَ على خاصرته.
قال :
انه ابو رشيد  وليس ابو رتيب....انه والدي   لقد توفاهُ الله
قلنا :
رحمةُ الله عليكَ  عمْ أبو رشيد .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق