حنّا أبو حنّا بين ديوانين:" نداء الجراح" و " تجرّعتُ سُمّك حتّى المناعة"
2011-05-20 15:30:56

لا تتغيّا هذه المقارنة لشعر حنّا أبو حنّا الالمام بكلّ جوانب شعره، انّما هي مجرّد مقارنة أوليّة لرصد المستجدّات، الّتي طرأت على هذا الشّعر بعد نصف قرن من الزّمان. وكي لا تنفلت المقارنة وتتسيّب وتخطئ بالتّالي غايتها، سنسيّجها بمساءلة واحدة تقول:

هل ثبت شعر حنّا أبو حنّا على مواضيع واحدة وأشكال واحدة أم أنّه استطاع مع مرّ الزّمن اختراق عالم الثّبات الشّعريّ الى التّحوّل، أو الى ما اصطلح على تسميته بالشّعر الجديد أو بالحداثة؟

بداية أقول: انّ قراءة متأنّية لديواني الشّاعر اللّذين يشكّلان رحلته الشّعريّة وآنيّتها- نداء الجراح وتجرّعتُ سُمّك حتّى المناعة1 تشي بأنّ شعر الشّاعر يراوح بين ثابت ومتحوّل. أعني بالثّابت أنّ هذه القصائد على تنغيماتها وتلويناتها تمتح من ينابيع فكريّة وقناعات واحدة، فتطال لذلك مواضيع محدّدة لكن من زوايا مختلفة، لكنّها مع المستجدّات والتطوّرات الفنيّة بدأت تخلع أزياءها القديمة وتتزيّا ببنًى وأشكال جديدة، تلائم روح العصر.

لكن قبل البدء برصد هذا الشّعر وقبل أن أجيب عن المساءلة المطروحة أذكّر بمقولة نقديّة:      "لا شكّ في أنّ كلّ عمل فنيّ يفترض فلسفة مُسبقة وخطّة فكريّة (واعية أو لا واعية)، تؤدّي الى انجاز هذا العمل وتحقيقه ابداعيّا وفكريّا" 2.

اذا سلّمنا بهذه المقولة، وهي عندي صحيحة، علينا أن نعود الى الوراء، لنرى الى المستجدّات الّتي طرأت على شعرنا العربيّ عامّة والمحليّ أيضا، لنقف على الفلسفة الكامنة وراء مسيرته خلال نصف قرن من الزّمان أو يزيد. نحن نفعل ذلك لأمرين. الأوّل: لأنّ شعر حنّا واكب هذه المرحلة الحرجة، فهو يترامى على مساحة زمنيّة واسعة، بدأت مع أواخر الأربعينات. وثانيا: لأنّ شعره لم يكن نَبْتا شيطانيّا مُنْبَتّا عن واقعه، بل هو ابن الواقع والمجتمع، يصوّره فكريّا واجتماعيّا وأدبيّا.
 


على الصّعيد العربيّ تميّزت المرحلة بما يلي:

هبّة فكريّة نتيجة لما بذره الرّواد في المرحلة الّتي سبقت.

مدّ قوميّ دعا الى العودة الى التّراث والتّشبّث به كأمّة لها رصيدها الحضاريّ والتّاريخيّ.

هبّة اجتماعيّة أدّت الى تغيّر في الكثير من المفاهيم الاجتماعيّة.

تبع ذلك هبّة أدبيّة واضحة؛ فقد واكبت حركة الشّعر الحديث تاريخيّا ثورة شاملة كان الشّعر ايقاعا لها وتفجيرا لرموزها الحضاريّة والانسانيّة وتجلّيا لحركة هذه الثّورة وتناقضاتها واندفاعا للتّحقّق والاستمرار.

ونتيجة لما تقدّم، كانت ثورة الشّعر الحديث الّتي يلخّصها امطانيوس ميخائيل بقوله:            حطّم الشّعر القواعد التّقليديّة والقوالب الجاهزة للقصيدة العربيّة واستعاض عن البيت بالتّفعيلة كوحدة أساسيّة في بقاء القصيدة، وعن القافية بعدد من القوافي، الأمر الّذي جعل القصيدة تتحرّر من روتينيّة النّغم وتنطلق مع التّموّجات الايقاعيّة الهارمونيّة والتّوزيع الموسيقيّ، ولم تقتصر الثّورة على الشّكل، بل امتدّت الى المضمون، فتغيّرت موضوعات الشّعر القديمة وتحوّلت الى أفكار عصريّة انسانيّة واقعيّة، تحوّلت من شعر يتسكّع على السّطح ويعاني الوجود من خارج الى محايئة هذا الوجود والتزام بالواقع، فصار الشّعر ديمقراطيّا يشخّص الهموم والأوجاع البشريّة العامّة ويتناقل مشاكلَ هذا القرن وأمراضَه الحضاريّة ومشكلاتِ الانسان عامّة وواقعَه المتحوّل وامكانيّته في البعث والنّضال لتحقيق واقع مستقبليّ منشود، الاّ أنّ هذه لم تلتزم اتّجاها فكريّا واحدا على صعيد المضمون مع أنّها التزمت اتّجاها واحدا على صعيد الشّكل 3.

أمّا على الصّعيد المحليّ، فقد تميّزت المرحلة بما يلي:

حيرة سياسيّة خلّفتها النّكبة، تشريد، حكم عسكريّ، مصادرة الأرض، انكسار اللّجوء وذلّ العوز والخوف والتّرقّب.

تغيّر في البنية الاجتماعيّة بسبب المستجدّات.

محاولات متكرّرة لطمس وتغييب الشّخصيّة العربيّة والتّراث العربيّ والهُويّة القوميّة.

تبع ذلك حيرة في الأدب. فبسبب الظّروف انقسم أدباؤنا الى قسمين: قسم آثر الصّمت وآخر آثر التّحدّي، ذاك صمت فترة ثمّ لملم جراحه وعاد للكتابة، وخاصّة الى نظم الشّعر. وهذا القسم الثّاني، بسبب ظروف المرحلة، وفي غالبه، دمج الخطاب السّياسيّ التّاريخيّ الأيديولوجيّ مع الخطاب الابداعيّ الفنيّ، ولكن الى حين عند البعض، كما سنرى فيما بعد 4.

شاعرنا حنّا أبو حنّا كان من هذا القسم الثّاني في ديوانه الأوّل خاصّة، أي من هذا القسم الّذي آثر الوقوف الى جانب شعبه، حيث وظّفوا فنّهم وسخّروه في البداية للدّفاع عنه وعن قضاياه، ومن ثمّ لتثقيفه وتوعيته وتثويره. وتكفينا نظرة سريعة الى عناوين قصائد الدّيوان الأوّل، كي نستدلّ على ذلك 5.

انّ قارئ ديوان "نداء الجراح" يكتشف رأسا أنّ الشّعر فيه شعر ملتزم، يجمع فيه الشّاعر بين النّظرة التّقدّميّة والمسحة الفنيّة 6.

شعر ملتزم بهموم الانسان وقضاياه وأحلامه. والانسان عند حنّا يعني الانسانيّة جمعاء. والتّمييز في هذا الشّعر بين انسان وآخر ليس من النّاحية القوميّة/ الطّائفيّة/ العرقيّة، وانّما بين ظالم ومظلوم/ غاصب ومغتصب/ مُسْتَغِلّ ومُسْتَغَل.

وطالما أنّ الانسان هو المركز أينما كان، اذا هذا الشّعر هو شعر مقاوم، يقاوم الظّلم والقهر والاستبداد عامّة7.%3

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق