"بواتِقُ وأنابيقُ أشرف ابريق"
27/08/2020 - 08:11:02 am

"بواتِقُ وأنابيقُ أشرف ابريق"

قراءة في كتاب "نوتات الكيميائي"

بروفيسور محمد حجيرات

 

كان صباحا غريبا، نهاية العشرة الاوائل من أغسطس الذي ما زال يحمل عبئ آب اللهاب، اخذت اشرب قهوتي على عُجالة بدون ان أتذكر امي او ان أتغزل في التركيبة الكيميائيّة لقهوتي الصباحيّة، جلست على شرفتي، التي تطل على التلال الممتدة لتعانق ناصرة المسيح في نهايتها، وانا احاول جاهدا ان أملأ رئتي، اللتان امتلئا بدخان النارجيلة ليلة أمس، بهواء المطر الأول الذي وصل مُبكرا جدا هذا العام، والظاهر انه غريب غير مُرحب به لأنه وليد التغيرات الكيميائيّة المناخيّة، والقادم من سماء بيروت المنكوبة كيميائيا.  كانت شآبيب المطر تغسل جسدي المترهل، لم أبه بذلك وتركت رذاذ المطر يُطهرني من خطايا ذاتي المتمردة أبدا. 

تقوقعت في كرسيي الجلديّ، ارتشف ما تبقى من فنجان قهوتي الصباحيّة التي قذف فيها المطر الحامضيّ الاول ماء ظهره المنحني. سكرت الريح وتوقف المطر فجأة وهربت الغيمة السوداء الحامضيّة الى الأردن، باحثة عن جسد جديد لتُعمّده وتغرز تركيبتها الكيميائية المجنونة في خلاياه. ظهرت الشمس على استحياء من خلف جبال ناصرة المسيح وراحت أشعتها تبحث عن حبيبات المطر الاول لتعيدها الى أمها في السماء. شعرت عندها وكأن حبيبات المطر تتراقص على النوتات الفيروزيّة لموسيقى "رجعت الشتوية"، تراقُصها والتوائها المعبّق بسحر الشرق السرمديّ سمح لها بان تنساب وتتسلل خفية تحت ملابسي الخفيفة لترتاح على خلايا جسدي وكأنها ارتأت ان تستوطن هناك للتراقص من جديد على سيمفونية ونوتات الكيميائي أشرف ابريق.

كانت دهشتي عظيمة في هذا اليوم الماطر، العاشر من اوغسطس، وانا اجهز نفسي للقاء العلّامة أشرف ابريق، كيميائي يقضي معظم اوقاته مع الأنابيق والبواتق، حتى كدت أظن ان ما قذفه المطر الاول في فنجان قهوتي الصباحية مادة كيميائية مهلوسة، فاختلطت عليّ الأمور. أشرف ابريق، "جنرال كيميائي"، "ابن بطوطة الكيميائي"، "السندباد الكيميائي العربيّ" وكما يسرد هو في كتابه، بأسلوب مبسط وراق، في القسم الثاني من رائعته "نوتات الكيميائي"، فان حصانه "المُشهّر" قد غرز حوافره، وزرع بفخر واعتزاز علم العروبة المهترئ في معظم اصقاع الأرض، ليصرخ بصوت جهوري "سجّل انا كيميائيّ".  

اختياره الموفق بان تكون قصيدته القصيرة "سجّل انا كيميائيّ" فاتحة لكتابه "نوتات الكيميائي" أظهرت نواياه الظاهرة والمبطنة في تحديث وتقريب وتأنيس المعلومات والمصطلحات العلمية الكيميائية لتصل بسلام وبأجمل هيئة الى قلوب وعقول العامّة بعد ان مرّت وبسلام عملية تقطير لعطرها الفوّاح من انابيقه وبواتقه. شاعرنا العظيم، محمود درويش، صرخ في وجه مغتصبي هويته، قبل عشرات السنوات "سجل انا عربيّ!"، وها هو كيميائيّ العرب يصرخ في كل اصقاع المعمورة، وهذا ما ورد في سرديّاته، من سور الصين العظيم حتى برلين ولندن والامريكيتين، "سجّل انا كيميائيّ!" وكأنه يعلن صراحة ان العربيّ هو كيميائيّ بالفطرة والكيميائيّ هو عربيّ الجينات بالتقادم.

علم الكيمياء علم عربي الأساس والمنهج، حيث وضع العلماء العرب نظرية كيميائية ناضجة ومنهجاً علمياً قويماً. لقد طوّروا المختبر الكيميائي وصنعوا له أدواته الخاصة. ومما لا شك فيه أن ذلك المختبر الذي طوّروه هو نفسه الذي نعرفه اليوم، وعرّفوا العمليات الكيميائية داخل المختبرات والعناصر الأساسية للمواد. واخترع العرب "الأنبيق" وسموه بهذا الاسم.

اختيار أشرف ابريق عنوان "نوتات الكيميائي" لكتابه كان موفقا ورائعا، فالكيمياء هي موسيقى ازليّة، تراقص الذرات والجزيئات والمركبات وتصادمها هي فاتحة لبدايات جديدة، وهي تشبه الى حد بعيد وقريب تراقص الصبايا والشباب في ساحات الرقص، تختلف النوتات ولكن البدايات والنهايات متشابه الى ابعد مدى.

يقول كوكلة، العالم الألماني ويوصّف لحظة اكتشافه وكشف الغطاء عن مبنى البنزن المركب الحلقيّ الذي فتح عالم الكيمياء على مصراعيه: "بعد أن عملت على حل المشكلة لبعض الوقت جلست على كرسي قرب المدفأة أراقب النار وغفوت. مرة أخرى كانت الذرات تثب وتتراقص أمام عينيّ. هذه المرة بقيت المجموعات الأصغر حجماً متواضعة في الخلفية.   عيني التي أصبحت أكثر حدة بسبب الرؤية المتكررة من هذا النوع، لم تستطع التمييز بين الهياكل الأكبر، والتشعب المتعدد؛ صفوف طويلة، تكون أحيانًا أكثر ملاءمة معًا؛ في حركة التواء تشبه حركة الثعابين.   لكن انظر! ماذا كان هذا؟ كانت إحدى الثعابين قد ظهرت وكأنها تبلع ذيلها، وكان الشكل يدور ساخرا أمام عيني والقرود تتراقص في كل مكان.  استيقظت كما لو كان الحلم وميض من الإضاءة ... ".

أشرف ابريق في رائعته "الموت"، يبين بشكل سلس وبأسلوب ادبي راقٍ ما قيل منذ الازل في المجتمعات الانسانيّة: " الحركة موسيقى" و " الصمت موسيقى". فالحياة هي موسيقى كيميائية صاخبة، والموت هو سيمفونية كيميائية هادئة وكل ذلك مرتبط بشكل عضوي في نوتات الكيمياء السرمديّة. 

كتاب أشرف ابريق الجديد "نوتات الكيميائي" اثبت بشكل قاطع إن العربية قادرة على أداء العلم في هذا العصر كما قدرت على أدائه في الأعصر السالفة. كما ان الكتاب بلغته العربية الراقية، واسلوبه الادبي المتميز اظهر للعيان إن العلم لا يكتمل مداه ويحقق غايته إلاّ إذا أدّي باللغة القومية، إذ إن ذلك يتيح له أن يتغلغل في المجتمع ويدخل في بنيته، ولا يكون مقصوراً على نخبة من مزاوليه.  كما ان جرأة أشرف ابريق في اصدار كتابه " نوتات الكيميائي " ستفتح أبواب مغلّقة امام العديد من علماء العلوم في مجتمعنا، وهم كُثر، لأنه لا بد للعالم المشتغل بالعلم الصرف من أن يُحسن العربيّة حتى يستطيع أن ينشر علمه في محيطه الاجتماعي.

   أشرف ابريق، ولج الادب من ابوابه المتعددة، فكتابه الجديد "نوتات الكيميائيّ" يفتح مجالا لموضوع جديد في ادب الكيمياء، وسأكتب فصلا كاملا عنه في كتابي الجديد الذي سيرى النور قريبا، "أدب الكيمياء وكيمياء الادب"، واستشرافا للمستقبل سيكون لهذا المجال أرضيّة خصبة للأدباء، للكيميائيين وللنقاد.

** أنْبيق / إنْبيق: جمع أنابيقُ: جهاز يُستعمل لتقطير السَّوائل والزُّيوت الطَّيَّارة. المعجم: اللغة العربية المعاصرة

** بَوْتَقَة / بُوتَقَة: جمع بَوْتقات/ بُوتقات وبواتِقُ: وعاء على شكل قدح تُصهر فيه الفلزات وغيرها من المواد أو تُسخَّن إلى درجات عالية من الحرارة، ويُصنع عادةً من مواد صامدة للحرارة مثل الخزف أو الجرافيت. المعجم: اللغة العربية المعاصرة

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق