آهٍ لو تعود بنا الأيّام...! شريف صعب_أبوسنان
2014-08-17 09:27:52
لم تبقَ امرأة في حيّ الّلوز إلّا وحاولت أن تُصلح الحال بين "مَهيبة"،الحماة الشهيرة في قرية"الزّبد" ...وبين كنّتها"كُهيلة" ،العروسه الجميلة ذات العيون الّلوزيّة الواسعة السّاحرة ، الّتي كان وجهها يتلألأ بياضًا ونضارةً وخدودها تتوهّج احمرارًا ، كاحمرار دمِ الوطواط...حتّى أنّ البعض كانوا يُردّدون قصّة حول... الطّفلة الصّغيرة الجميلة ، كيف أنّ امّها كانت تتباها بجمالها، بطفولتها، خصوصًا بعد أن...ذبحت وطواطًا ومسحت بدمه خدود ابنتها الجميلة كُهيله...تمشّيًا مع الأسطورة الشّعبيّة القديمة! منذ ذلك اليوم أصبحت خدود الطّفلة شديدة الحمرة بهيّة سنيّة!
  كلّ المحاولات لإصلاح ذات البَينِ بين الحماة وكنّتها بائت بالفشل الذريع، رغم أنّ الكنّة كانت دائمًا على استعدادٍ للتّصالح وللتّصافي...فحماتها  صعبة المزاج، مغرورة فظّة الكلام "مُتحكّمةً" بزوجها وبمقدّرات أبنائها وزوجاتهنّ، فأمرها مُطاعٌ وهو الأمر الفصلُ!
"بشّار"، زوج كُهيلة،يموت بها حُبًّا وعشقًا وقد وقع بين مطرقة أمّه بكلامها الفظّ الجارح ...وسدّان زوجته الطّيّبة الّتي كانت كالبدر جمالًا وكالملائكة رقّةً!
...حتّى أنّ الحّاجة "سُرَيدة" فشلت أيضًا في إرساء دعائم الصّلح بين الإثنتَين، رغم أنّه لم يجرؤ أحدٌ على مُعارضتها في القرية بسبب سداد رأيها...وهي الحاجّة سُريدة، أم كامل، الّتي....تضرب المنادل وتذلّل ملوك الجان لإمرتها...تقرّب الحظوظ..وتحلّ مشاكل السّحر وهي الّتي لا أحد يُعارض أمرها، احترامًا وربّما خوفًا، حتّى هي لم تستطعْ فضّ الخلاف!
على ماذا كان الخلاف بين الكنّة وحماتها يا تُرى؟! على أمورٍ تافهةٍ رخيصةٍ في غالب الأحوال...لا قيمة لها إلا عند ضُعَفاء النّفوس ومريضي العقول...كهذه الحماة الغبيّة! فإذا لبست كُهيلة انتقدتها وإذا تكلّمت أسكتتها وإذا نضّفت البيت وقفت لها بالمرصاد وإذا أرادت  السّفر مع بشّار، اشتعلت نار كَيدها و"لزّقت" لهما وكانت تجلس إلى جانب ابنها ...و"ترمي" زوجته في المقعد الخلفيّ، عمدًا... وإذا اشترت أكثرت من كلامها التّافه الّذي لا يُطاق وإذا ذهبت لزيارة أهلها أقامت"عُرسًا" من شدّة كيدها وأكثرت من وشوشتها لابنها بشّار، خصوصًا أنّها كادت "تفقعُ"غيرةً...من أمّ كهيله، المرأة الجميلة الأنيقة! 
عندما كان يحاول أبو بشّار، أحيانًا زجرها...كانت تثور في وجهه كالعاصفة الهوجاء...فينخرسُ..كحَمَلٍ مُطيعٍ! كان كلامها كوخز الإبر وكطعن القنا ممّا أدى إلى أن يضيق ضرع كنّتها وابنها بها وأن يُقرّرا الخروج من بيتهما، فوق دار أبيه والإنتقال إلى بيت مُستأجر بعيد...تصرّفٌ، فاقم الأمر وزاده سوءًا! 
عندما حاول مُختار القرية التّدخّل...بعد أن ألحّت عليه "السّت" سُريدة ونجح في أن يُحضر بشّار وزوجته وأطفاله إلى بيت مهيبة قالت لهم في نهاية الّلقاء" من بُكرة نعود كما كُنّا...لا كلام ولا سلام...ما دُمت كلبًا...لها!!
لقد تفاقم الأمر كثيرًا بعد ذالك الّلقاء ولم يعُد للصّلح سبيل أبدًا؟
لم توفّر الحماه من كلامها الرديء على كنّتها وأكثرت من دعواتها  بالمرض...وبقصر العمر وبالأمنيات السيّئة...عليها وعلى أمّها الّلتين "سلبتاها" ابنها "المسكين"
مرّ أكثر من عشر سنوات والحال على هذا المنوال . كان بشّار يأتي إلى بيت أبيه ، مرّة كل بضعة شهور لرؤية والده الّذي تحمّل الكثير من جَور زوجته ومن...سوء أفعالها،  مع أبنائها وكنّاتها. كانت زيارات بشّار عادةً عندما تكون أمّه خارج بيتها. و مرّت الأيام ومع مرورها زاد منسوب الجفاء ...والعجوز على رأيها، لا يردعها رادعٌ!
في السّاعة السّابعة مساءً تقريبًا عاد الزّوجان، بشّار وكُهيلة إلى البيت...من فحوصٍ في المستشفى،أسفرت عن نتائج وخيمة حزينة،مصيريّة، بالنّسبة لهما وذلك أنّ كهيلة تحمل في داخلها ...خلايا سرطانيّة مُتقدّمة، ذات انتشار سريعٍ وأنّ حياتها قد أصبحت في خطر!
عمّ البيت جوٌّ من الحزن والألم الشّديدين وانخبطت الأمور وتلاشت السّعادة "الزّائفة" وتغيّرت الوجوه والنّفوس...وداهمت كهيلة أيّام من الإرهاق ثمّ أقعدها المرض فاستلقت على فراشها وأصبحت عاجزة عن القيام بواجباتها البيّتيّة...فوقعت المسؤوليّة على ابنتها،رجاء،  الّتي لم تتجاوز بعد سنّ الثّامنة والّتي لم تنقطع عن البكاء، ولو للحظة. 
عمّ الحزن بيت بشّار وعائلته وكان حزن الأولاد كبيرًا على أمّهم المسكينة..فقد تغيّر كلّ شيء في نظام حياتها و...جسمها وانصبغ لون وجهها بالصّفار...  وها هي قد فقدت الشّهيّة للطعام. يا للّه كيف تحوّلت السّعادة إلى تعاسة  خلال أيام!!
أفشلت مهيبة كلّ محاولات الصّلح من قبل  النّاس والجيران و...الوجهاء وأصرّت على عنادها بفظاظة لسانٍ وكانت تقول:"إنّها تُمثّل، والّله إنّها تمثّل حتّى يحبّها أكثر وحتّى تبعده عنّي...الّله يجازيها!" إنّها لم تُقدّر أنّ كنّتها تُقضّي أيّامًا، فقط.
في منتصف إحدى الّليالي المظلمة صدر صوت حشرجة شديدة غن كُهيلة، لم يكن ذلك الصّوت مألوفًا في أجواء هذا البيت. نهض بشّار من فراشه وكذلك الأبناء، أُشعل النّور ثمّ هرع الجميع باتّجاه سرير الأمّ المسكينة...الّتي كانت تنتفض محاولةً التقاط أنفاسها التقاطًا. كان وجهها يتدفّق احمرارًا...كدم الوطواط..ثمّ همدت جثّتها همود السّالفين، وكأنّها لم تكن!
شاع خبر وفات كهيلة كالصّاعقة في تلك الّليلة الحالكة، وهرع النّاس وهم يردّدون: ماتت كهيلة...ماتت كهيلة! 
عمّ الضّجيج البيت وامتلأت ساحة الدّار حشودًا وتعالت أصوات البكاء والنّحيب .فجأة اندفعت مهيبة بين الجماهير وهي تولول بأعلى صوتها كالمجنونة وتُخبّط على رأسها: ابني، حبيبي ..يا خراب بيتك يا نظري ,,,يا مهجة قلبي، حسبي الّله ونعم الوكيل حس...ثمّ انهارت وسقطت كالخرقة، بين النّاس!
كانت الطّبيعة عبوسًا والجوّ متجهمًا في يوم الجنازة وقد أذهلت مهيبة المشاركين والمشاركات...حتّى أنّ البعض راهن على أنّها قد فقدت صوابها .لم تتّسع ساحات القرية لآلاف المشيّعين الّذين وفدوا من القرى المجاورة فقد ألّفت الرّحمات على الفقيدة وكان الألم والحزن عليها حقيقيّان.
بعد ثلاثة أيّام فقط ضرب خبر موت مهيبة أرجاء القرية...حسرةً وألمًا على موت كنّتها...لقد "فقعت" الحماة وانفجر مُخّها ولم تتحمّل ما آلت إليه الأمور...
شُيِعت "مهيبة" بجنازة غير مهيبة إلى مثواها الأخير، بمشاركة بعض النّاس، ودفنت ...في نفس الجبّانة إلى جانب كنّتها كهيلة الّتي ما زالت نضرة طريّة كغصَين بانٍ وكنبتةِ هَلَيونٍ.
في تلك الّليلة قامت روحها وتوجهت، رأسًا إلى روح كنّتها... الّتي بجانبها وعانقتها عناقًا شديدًا وهي تُقبّل وتشهق بصوت عالٍ، ألمًا ولوعةً.
كان ذلك عناق من نوع آخر بكت له ملائكة السّماء الّتي حضرت في المكان.
لم تبدُ على وجه روح كهيلة إلا الإبتسامة العريضة الهادئة، وأمّ بشّار تقول: "سامحيني، سامحيني يا كنّتي الطيّبة واطلبي من ربّك أن يشفع لي، على ماذا تخاصمنا يا قُرّة عيني ألم يكن كلّ ما كان بيننا إلا هباءً وكلامًا تافهًا... لعن الّله الوسواس الخنّاس الّذي يفرّق بين النّاس...والّله لو عادت ينا الأيّام لأطعمتك لوزًا وسكّرًا ولجعلت قلبي عرشًا لك ولكنت نذرت نفسي لإصلاح ذات البَيْن ما بين النّاس ولجمعت قلوب جميع المتخاصمين ولأجلستهم على طبق واحد: جهاد وأبيه ، سلوى وأختها ، جميل وجاره ،صفاء وسلفتها ، نايف وابنه ،عَدوان وأخيه ، رهام وابنتها إخلاص وأخيها و...و...و...و...و.................و..و....." ولو أرادت الإستمرار في سرد الأسماء،لذكرت أسماء جميع سكّان القرية.."أليس الخلاف بين الجميع على أمور لا قيمة لها؟!!
فوالّله لو شاهد جميع هؤلاء ظلمة القبر لتعاضدوا وتماسكوا وتحاببوا ولحمدوا الّله على نعمته ولتصافت قلوبهم ولساغت عقولهم! والآن ،يا حبيبتي أعدك بأن تبقى روحَينا متعانقتين إلى يوم الدّين!!!ّ"
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق