`" مرايا وخبايا "... قصّة قصيرة، تأليف:شريف صعب_أبوسنان
2014-06-22 20:21:04
كان جميع أقارب شهاب يجلسون متوتّرين ،في غرفة الانتظار التي سادها  الفوضى والجدل العقيم،اللّانهائيّ.بدت على الوجوه علامات الحَيرة والألم...مع شيء من الإحباط !أمّا أُمّ شهاب فكانت تبكي وتتألّم،دون هوادة...تخبط بيدها اليمنى على يدها اليسرى وهي تنوح وتلوب بصوتٍ خافت مخنوق:"يا حوينتك يا شهاب!يا خسارة على شبابك،شو صابك يا مهجة عيني...لعن الّله أولاد الحرام...والشيطان!"...هكذا كلّ الوقت مع تغيير بعض العبارات! كانت عيونها تدمع كنبعة ..."عين الكوثر."
فجأةً فُتح بابُ غرفة العمليّات ثمّ خرج الدكتور "ماكس" فهجم عليه الحاضرون هجوم النّسور...على فرخ بطٍّ شارد وأحاطوه...توّاقين للاستماع لما ستنبسُ شفتاهُ.
"الوضع صعب،ما زال الشّاب في غيبوبة..وما بنعرف متى سيفيك منها،إزا أفاك ...يمكن بعد يومين...يمكن بعد أسبوع،نحنا بنكدم كل ما نستطيع،والباكي على الله...إمبيّن إنّوالسمّ من نوع غريب...بعد شويّ راح نُنكلو لغرفة العلاج المكسّف وبنطلب منكو ما تزعجو! كما كولت هوَي في غيبوبة!"
"يا حضرة الدكتور،في خطر عَحياتو؟"سألت الأمّ الدامعة،"إن شاء الله لأ!"أجابها الدكتور،ثمّ عاد من حيث أتى..وأقفل الباب.
كان ذلك اليوم من أسعد أيّام عائلة أبي شهاب،يوم زواج الابن الّذي جاءهم...."على رأس" خمس بنات،من أجمل فتيات القرية على الإطلاق ،وكلّهنّ تعلّمن وتزوّجن...وأنجبن،من البنين والبنات وقد ذاع صيت أعراسهنّ في البلاد...إلا أنّه في هذه المرّة،كلّ شيء يختلف،فهذا عرسٌ من نوعٍ آخر..مع نكهة مختلفة...لوليّ العهد الّذي سيحمل اسم العائلة الكبيرة"عائلة المنصوري"الّتي يتزعّمها أبو شهاب!
أراد الوالدان جعل هذا العرس تاريخيًّا ولم يوفّرا شيئًا في سبيل ذلك،فإضافةً إلى أيّام "التعاليل" فقد حجزا أفخم الفرق الموسيقيّة وأكبر الصّالات...وأشهى المأكولات واتّفقا مع استوديو"الأناقة"ليكون
 حاضرًا ناظرًا لجميع تفاصيل..السّهرة بكاميراته الحديثة.."فليصوّر المصوّرون،وليكتب التاريخ!"كان يقولها أبو شهاب بصوته الجهوريّ أمام زوجته"زريفه"،الّتي لقّبها الناس"ستّ الستّات"أو"ستّ الصّبايا"...لجمالها وروعة أنوثتها فرغم كونها في الخمسينيات،إلا أنّها كانت تبدو كالصّبايا الفاتنات...والكثيرات كُنّ يسألنها وهي تسير،أحيانًا مع إحدى بناتها:"أُختك،أُختك؟"فتردّ،ضاحكةً:"..جدّة لثمانية أحفادٍ وهذه ابنتي!"يا لها من امرأةٍ أنيقةٍ فاتنة،بعيونها الخضرِ،خدودها الحمرِ وقدّها النّحيف الظّريف!حقًّا إنّها ظريفةٌ،قولًا وفعلًا!
بدأ الضّيوف يتوافدون إلى قاعة الأفراح،جماعات جماعات..ومن بينهم العشرات بل المئات من أصدقاء العريس، من قريته ومن القرى المجاورة،  يدخلون القاعة على أنغام الموسيقى المشنّفة للآذان... أجمل ما عزف الموسيقيون:لفريد الأطرش،لعبد الوهّاب(عندما يأتي المساء)،يا مسهّرني لأمّ كلثوم...وغيرها. بدا الحاضرون بنشوةٍ لا مثيل لها...والمأكولات الّلذيذة والمقبّلات المختلفة..والأنوار الفاتنة...وبريق الكاميرات في كلّ ناحيةٍ،ما شاء الّله، سهرة ولا أجمل... وعروسين..سبحان من صوّر،كلاهما نجمٌ أغرّ! لم تشهد تلك القاعة أجمل من تلك الأمسية الفتّانة أبدًا.
كانت ذروة السّهرة عندما نزل إلى ساحة الرّقص أبناء عائلة أبي شهاب:الوالدين والأخوات وأزواجهنّ...والأحفاد الصّغار،الّلذين يأخذون العقل ببهائهم وبحركاتهم العفويّة البريئة.
كان أبو شهاب يلبس الزيّ العربيّ...ويتمنطق بعقاله المائل،وعلى زنّاره "شبريّة"عربيّة أصيلة،أهداه إيّاها...الملك "الحسين بن طلال"،عندما شارك مع وفد عرب الدّاخل...لمباركة جلالته بعيد ميلاده الميمون.و...أمّ العريس، بزيّها العربيّ الفتّان وعلى خصرها...زُنّارٌ مزركش الألوان، كانت ورثته عن أمّها.
استلّ أبو شهاب شبريّته وراح يلوح بها وسط السّاحة ممّا هيّج جمهور المحتفلين وكان "يهدُرُ" بصوته مع .. المطرب واعتلى صوت الجماهير الّتي هلّلت وكبّرت .لأهل الفرح...ليلة ولا مثلها ليله!
...بقي الوضع على هذه الحالة حتّى بدأ الشّباب.."يضربون" كؤوس الفرح ويشربون الخمرة،دونما حساب!كان الجميع يردّدون الأغنيات مع المطرب..يرقصون ويصفّقون، دون هوادة.أمّا العروسين فكانا يطوفان بين الطاولات والعريس ب"حلقته المارينزيّة"...يرتشف الخمرة من كؤوس"أصحابه" ،ماسكًا بيد عروسه الفاتنة، بفستانها الشّفاف،الّذي أدّى دوره الخاص...وبيّن أكثر ممّا حجب ،أدّى دوره وأبرزَ...كلّ ما تشتهيه أعين الشّباب الطّائش.كان الأصدقاء يدورون حول العروسين بشغفٍ عظيم خصوصًا الشّاب"نزار" الّذى كاد ينفجر كيدًا من"صديقه"شهاب...حيث غلبه فى حبّه لتلك الفتاة الفاتنة...ولأنّ وساطة شهاب كانت أقوى بكثير من وساطته هو...ف "قنصها"  منه قنصًا!
كاد قلب نزار يحترق من عَظَمة هذا الحفل...والكيد والغيرة يقطّعان قلبه فأراد أن يفعل شيئًا،كان قد خطّط له مُسبقًا... مهما كانت النتائج .
حول العريس راح الشّباب يرقصون ويهزجون ..فلا أحد يفهم على أحد، بسبب الموسيقى الصّاخبة وكلّ واحدٍ منهم يقترب من العريس و...يجرّعهُ من كأسه!
مدّ نزار يده إلى جيبه وبدأ يتحسّس"الحبّة"..الّتي أحضرها، خصّيصًا، لهذه "المناسبة" التّاريخيّة،فهو يريد أن يفعل شيئًا ما! 
ودون أن يشعر أحدٌ بنواياه الّلئيمة ،أخرج "الحبّة" من جيبه ثمّ دسّها في كأسه المحتوية على "خلطة" لا يعلم محتواها إلا...الشّيطان!!
تقدّم من"صديقه"العريس ثمّ قبّله عدّة قبلاتٍ و...سقاه من الكأس"الملغومة"، بعدها تركه  وراح يدور في وسط السّاحة..ويرقص كالسّكرانّ. لم يشعر أيّ إنسانٍ بما اقترفت يداه!
 تلك كانت جرعة الحسم الّتي بدأت تأخذ مفعولها بعد بضع دقائق في...عقل وأعصاب ودم العريس الأنيق!
بدأ العريس يترنح كقضيب بانٍ يضربه النّسيم، ورويدًا رويدًا أصبح يفقد السّيطرة على حركات جسمه...ولم يعد يدري ما هو فاعله وراح يفقد وعيه، وأخذ يرقص ...كالدّبّ في كرم عنب، يضرب ويرفص، يجعر كالوحش الكاسر، يشتم هذا وذاك...ويطلق حركاتٍ أشبه ما تكون بحركات المجانين. خلال لحظات بدأ يقفز في الهواء وترك عروسه، كأنّه لا يعرفها..وراح يجرع الكؤوس،دون هوادةٍ! لقد ثمل تمامًا!
فجأةً صعد إلى المنصّة وصرخ على المطرب الّذي لم يعرف كيف يتدبّر الأمر،اقترب منه شتمه وصفعه لأنّه لم يغنّي له أغنية..."تع ننسى، تع ننسى"!
فرطت الحفلة وعمّت الفوضى القاعة واعتلى منسوب التوتّر إلى القمّة فانقلبت بعض الطاولات والكراسي ولم يعد بمقدور أحدٍ..."تثبيت" العريس الهائج الّذي أصبح" يقصف" عشوائيًّا...كالكلب السّعران!
 توقّفت الموسيقى ..والفرح أضحى ترحًا وعمّ جوٌّ من الألم والبكاء  عند أهل العريس وأقربائه، خصوصًا الوالدين وكاد الوالد أن يفقد عقله..ولم يدر أحدٌ في القاعة ماذا حدث! 
لم يستطع أحد تهدئة العريس،الحاضر_الغائب فتقدّم منه نزار ،عانقه وقبّله ثمّ صرخ"ليش هيك، لماذا كلّ هذا...استح يا رجّال، عيب عليك...خرّبت الفرح!" ثمّ بدأ يذرف دموع التّماسيح.
سقط العريس على الأرض سقوط..نبلة تينٍ .فجأةً، هربت العروس راكضةً إلى خارج القاعة...فلحق بها الحاضرون المذهولين... لكنّها لم تعد!
  فقد شهاب وعيه تمامًا واحمرّ وجهه وارتفعت حرارة جسده وأصبح ينتفض...كفأرٍ لدغته أفعى فانكبّ عليه أبوه،وقد طار العقال عن رأسه دون أن يشعر بذلك ،وهو يصرخ بصوتٍ جنونيّ":شهااااااااااااب ،صابوك في العين يا حبيبي...ودّروك ولاد الحرااااااااام، يا حوينة شبابك يا زينة الشباب، شو صابنا يا ناس...دخيلك يا الله!!" وصل صوت العويل والشّهيق إلى السّماء،والنّاس ينظرون إلى الوالد...الجريحّ عاجزين عن فعل أيّ شيءٍ!
وصلت سيّارة الإسعاف ونقلت العريس، بسرعة البرق إلى المستشفى القريب وقد رافقه فيها..."صديقه نزار"...يبكي ويولول و...يتظاهر!! خرج المدعوون من الصّالة عائدين إلى بيوتهم، والكثيرون توجّهوا إلى المستشفى.
بعد مرور أسبوعين كان قد أُخرج المسكين من غرفة العلاج المكثّف بوضعٍ يدعو إلى الشّفقة،أمّا العروس"سحاب" فقد أصابها شيء من الجنون وأصبحت غير مُتّزنةً، عقليًّا... ،لقد أُصيبت بصدمةٍ نفسانيّةٍ أفقدتها إحساسها!
...بدت أم بشّار، المرأة التي ظهرت دائمًا كأختٍ لبناتها وكأنّها قد هرمت عشرات السّنين وعمّ اليأس والبؤس تلك العائلة الآمنة...وقد حرّقت الدّموع المآقي!
في يوم الجمعة، عندما كان الخطيب يخطب بالمصلّين حول الجريمة ومعاقبة أولاد الحرام في الآخرة...ويسترشد بالأحاديث الشريفة وبالآيات القرآنيّة، كان نزار يجوب شوارع القرية شاهرًا صوت مسجلة سيّارته عاليًا في الفضاء...على أُغنية"تع ننسى"...آتيًا ورائحًا ، إلى إحدى...الحانات حينًا، أو إلى أحد مقاهي القرية حينًا آخرَ!
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق