مَن يعيش المأساة لا يحيي ذكراها / راضي كريني
2014-04-29 12:52:38
شاهدتُ برنامجا تلفزيونيّا إبّان ذكرى "الكارثة والبطولة"، التي أحيتها حكومة إسرائيل أمس، يتنقّل فيه الصحفيّ بين مجمّعات تل-أبيب التجاريّة، ويسأل بشكل عشوائيّ مَن يصادفه عن الكارثة..لم أستغرب فشل غالبيّة العيّنة المنتقاة في الإجابة الصحيحة على سؤال الصحفيّ.
لم يختزن شباب إسرائيل وصباياها اليهود موضوع الكارثة والبطولة بالواقع في ذاكرتهم؛ كي يتمكّنوا من استرجاعها والشعور بها.. لذلك لا يكمن السبب في سوء تنظيم التخزين لينسَوْا، ولا في قلّة وضعف أساليب الإثارة وأنواعها التي تتبعها آلة الدعاية والتذكير الصهيونيّة الفاعلة على مدار السنة، وليس إبّان يوم الذكرى فحسب، ولا في ضعف طقوس الذكرى الضخمة، ولا في هول الكارثة؛ بل يكمن السبب ببساطة في الإسرائيليّ ذاته، الذي يمارس منذ النكبة الفلسطينيّة دور الجلاّد وليس دور الضحيّة؛ فأثر ذاكرة ضحيّة النازية اضمحلّ في الذاكرة الجماعيّة الإسرائيليّة وذبل ليحلّ مكانه أثر ذاكرة الجلاّد والمحتلّ والمستوطن للأراضي العربيّة!
 التنكيل بالفلسطينيّ واحتلال أرضه ونهب أملاكه ومقدّراته و... هي ممارسات تشويه واقعيّة لأثر ذاكرة الكارثة النازيّة المختزنة نظريّا في ذاكرة قيادات سياسيّة ومثقّفين من شتّى أرجاء العالم؛ فالسياسات العدوانيّة الإسرائيليّة الممارسة يوميّا ضدّ الشعب الفلسطينيّ جعلت من تذكير الشعوب الأوروبيّة بالكارثة النازية مهمّة مستحيلة؛ فالشعوب الأوروبيّة لم تنسَ الكارثة كي تحمي نفسها منها وتجمّل صورتها الحضاريّة المشوّهة مِن انتعاش الحركات الفاشيّة المتنامية بين ظهرانيها! (كما حذّر شمعون بيرس، رئيس دولة إسرائيل، في احتفال الذكرى أمس)، فالشعوب الأوربيّة فقدت تذكّر الكارثة نتيجة لتداخل المأساة الفلسطينيّة مع المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تعيشها شعوبها يوميّا.
بالواقع أسهمت آلة الدعاية والسياسة الصهيونيّة المعادية للفلسطينيّ على أساس دينيّ (دولة يهوديّة نقيّة من الغرباء)، علاوة على ممارسات الاضطهاد القوميّ، وتسهم في جعل التعصّب الدينيّ سمة من سمات شعوب الشرق الغارقة في القلق على مستقبلها، وفي العجز عن مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والتكنولوجيّة و...؛ فأصبح الانتماء للدين والتعصّب له كافيًا لإدخال الطمأنينة النفسيّة على غالبيّة شعوب المنطقة.
لم يكن صدفة وزلّة لسان تصريح وزير الخارجيّة الأمريكيّ، جون كيري، لموقع "ديلي بيست": من أنّ إسرائيل ستصبح دولة فصل عنصريّ، في حال عدم التوصّل إلى اتّفاق سلام  مع الفلسطينيّين قريبا، ولم يكن بمعزل عن محاولات التذكير الأمريكيّة بالكارثة، وفي الوقت ذاته يدلّ على يأس السيّد الأمريكيّ من قيادتي الشعبين، بيبي وعبّاس (يسرّنا أن ييأس من عبّاس دون سواه)، وإبداء النيّة في تغييرهما، من خلال إحراجهما عن طريق إعلان اتّفاق سلام يكون على الطرفين إمّا قبوله أو رفضه! ونحن كنّا رفضناه. 
كما جاء تصريح عبّاس وتعاطفه الصادق والجريء مع ضحايا الهولوكوست من اليهود، يوم أوّل أمس، ووصفه للكارثة بأنّها "أبشع جريمة عرفتها البشريّة في العصر الحديث"، وإعرابه عن تعاطفه مع عائلات الضحايا والعديد من الأبرياء الآخرين الذين سقطوا على أيدي النازيّين"، كرسالة فولتير إلى البابا في تحذيره مِن الإسلام ليهاجم المسيحيّة! أو كما نقول في بلدنا "بحكيلك يا جارة حتّى تسمع الكنّة"؛ فشكّل إحراجا للقيادة الإسرائيليّة الناكرة للرواية الفلسطينيّة، وتذكيرًا مثيرًا للشارع الإسرائيليّ بالروايتين.
 إنّ حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ ليس منوطًا برغبات وقرارات حكومة اليمين الإسرائيليّ وبرأيها، فالمصالحة الوطنيّة الفلسطينيّة هي شرط ضروريّ ناقل إلى الشرط الكافي للتحرّر السياسيّ ولاستكماله، فنحن كفلسطينيّين، الذين نرزح تحت وطأة  مأساة الاحتلال والاضطهاد القوميّ، لا نحتاج إلى عمليّات إثارة لاسترجاع الذاكرة؛ فمَن يحيي بموته قضيته، سوف يحتفل بذكرى تحرّره، ومَن يعتبر استشهاده مهرًا لتحرير بلاده، لا يستسلم لألم الحصار الاقتصاديّ! 
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق