"شهامةٌ عربيّةٌ أصيلة" بقلم:شريف صعب_أبوسنان
2014-04-24 12:32:51
لم يمرّ أسبوع إلا وذكر فيه أبوقصب صديقه أبا أمين الذي كان اجتمع به ليلة واحدة فقط في حياته كلّها...وعن طريق الصدفة،إلا أنّها كانت ليلة من العمر،حيث انخرطت في ذاكرته الى الأبد شخصيّة ذلك الرجل البشوش الرزين،الّذي يبعث في قلب من يتعرّف عليه الاحترام والتقدير! كان أبو أمين رجلًا حكيمًا فهيمًا طيّب العشرة، ليّن العريكة إلى حدٍّ كبير.كان أبو قصب يقول لزوجته دائمًا"حتّى لو آخر يوم في عمري،سوف أذهب وأزور صديقي أبا أمين،في بيته!"...و مرّت الأيام والسّنون ولم يلتقي الرجلان قط.
 
ومن ناحية أخرى،لم يتورع أبو أمين عن ذكر مكارم صديقه أبي قصب،صاحب النّخوة والإباء والشّهامة العربيّة الأصيلة،الذي دفع بنفسه...ودعاه وزوجته ليبيتا في داره...عندما انسدّ ت في وجهيهما السّبلُ! كان أبو أمين يقصّ على مسمعٍ من أبنائه وبناته..كيف دعاه أبو قصب، دون أن يعرفه من قبل،وكيف فتح له ولزوجته البيت وقدم لهما وجبة عشاءٍ،ممّا تيسّر،ووجبة فطورٍ في بيته المتواضع...في النّاصرةِ!
 
والقصّة عرضيّة بسيطة،ففي سنة  1952 اصطحب أبو أمين إبنته الصّغيرة وزوجته قاصدًا مدينة النّاصرة ،في الباص الوحيد الذي كان يتّجه صباحً كلّ يومٍ، من كفرياسيف ثمّ يعود في المساء...وذلك لإجراء عمليّة الزّائدة لابنته...رأسًا للمستشفى الإنجليزي.
 
 استغرقت الفحوص ساعاتٍ طويلة أفقدت أبا أمين وزوجته فرصة العودة لقريتهم الجليليّة في ذلك اليوم!
 
كانت الأّيام أيّام فقرٍ وقلّة ...والحالة على قدّها،كما يقولون،وخلال انتظارهماخروج الطبيب راحا يتجادلان كيف سيتدبّرا الأمر ...وأين سيبيتا وماذا سيفعلا..خصوصًا أنّهما دروزٌ...في بلدةٍ بعيدة غريبة...في تلك الأيّام .
 
لقد بدت على وجهيهما علامات الحيْرة والإحباط ! وكان يجلس معهما في غرفة الإنتظار شاب هزيل قصير القامة سمع ،كما يظهر،ما حصل بين الزّوجين وأحسّ بأنّهما في حيْرة من أمرهما...كان ينتظر خروج أمّه من غرفة العمليات.
 
بان على ملامح الزوجين شيءٌ من الخوف فخاطبهما الرجل قائلًا:" من أين الإخوان؟" فردّ عليه الرجل :"من قرية درزيّة في الجليل" وسأله أبو قصب عن المشكلة...التي كان قد فهمها مسبقًا ثمّ أضاف بعزيمةٍ وإباء وإصرار:"إنّكما ضيوفي في هذه الليلة حيّا الله بني معروف!"
 
وبالفعل إنتظرهما الرجل حتّى قابلا الطبيب،بعد العمليّة، الذي طمأنهما عن الطّفلة ثمّ خرجا،في أوّل الّليل، متّجهين إلى بيت المضيف،أبي قصب.
 
 أبو قصب هذا،رجلٌ مسلمٌ كريم الأخلاق من سكّان الناصرة،قام  بواجب ضيوفه على أكمل وجه وقد أكرم الرجل وزوجته بحفاوة كبيرة...دلّت على أصالة عربيّة حاتميّة وتناولا في بيته ما تيسّر من مطعمٍ ومشرب.
 
لقد أحبّ الرّجلان الواحد الآخر..دون تكلّفٍ...وكذلك النّسوة، وأعجب أبو قصب إعجابّا كبيرًا بضيفه،صاحب الرّزانة والحكمة الكبيرة.وفي اليوم التالي اصطحبهما الرجل الى المستشفى ثمّ ودّعهما بما استقبلهما به من احترام.
 
لم يكن بالإمكان محو أثر تلك الزّيارة  من ذاكرة الرّجلين الّلذين تأثّر الواحد بزميله إلى أبعد الحدود،ومن ذلك اليوم لم يلتقيا أبدًا!
 
كان أبو قصب مُصرًا على زيارة أبي أمين في بيته وخلال السّنين كان صديقه يتوق إلى لقائه أيضًا،وعندما سأل عنه في النّاصرة قيل له بأنّه انتقل إلى إحدى القرى المجاورة...ولم ينجح في لقائه أبدًا!
 
 مرّت السّنون والأيّام بسرعة البرق وأصبح أبو أمين شيخًا عجوزًا تجاوز التّسعين عامًا، وقورًا،قويّ البنية عظيم الهيبة، يسكن داره مع زوجته، ومع ابنه وأحفاده...في الطابق الثاني.أمّا أبو قصب فقد كاد يبلغ الثمانين عامًا...
 
عجوزًا قد أنهكته بعض أمراض العصر كضغط الدمّ والسّكري وزيادة في الدهنيات وغيرها...!
 
في أحد أيّام الصّيف في العام ألف وتسع مئة واثنتين وتسعين أخذ أبو قصب كرسيّه الصغير،الذي لا يسافر بدونه ليجلس عليه كلما شعر بالتّعب،ثمّ خرج من بيته ظُهرًا مُتّجهًا إلى محطّة الباص الواصل إلى عكا فاعتلاه ثمّ دفع وجلس. أنزله السائق، على مفرق "لعياضيّة"،كما طلب،ومن هناك...إلى قرية الشّيخ أبي أمين.
 
في الثّانية،ظُهرًا،تقريبًا كان يدقّ بعكازه على بوابة بيت أبي أمين الحديديّة وهو يُنادي:"أبو أمين،يا أبو أمين!"
 
لم يصل أبو قصب بسهولة إلى بيت صديقه العزيز إلا بعد عناء،حيث أصبحت القرى كالمدن مترامية الأطراف...ورغم ذلك ورغم وضعه الصحيّ،وصل.
 
رأى أمين أمام عينيه رجلًا لم يشاهده في حياته،على رأسه عقالٌ وكوفيّة عربيّة ."تفضّل،تفضّل،أهلًا وسهلًا،يا مرحبًا!"
 
"وصلنا،وصلنا!"قال الرّجل وهو يلهث من شدّة تعبه!"لقد وصلنا والحمدلله،أهنا دار أبو أمين؟" "نعم هُنا،أهلًا وسهلًا!" وين أبو أمين،دخلك!"..."في الداخل،تفضّل!"
 
دخل أبو قصب البيت واستقبله شيخٌ منتصب القامة يلبس الزيّ الدّرزيّ التقليديّ، راح يرحّب به على الطّريقة الدّرزيّة العربيّة الأصيلة.
 
"أنت أبو أمين؟""طبعًا"،ردّ الشيخ"أهلًا وسهلًا...مين حضرتك؟!"
 
"مش عارفني يابو أمين؟"..."لا والله،من تكون؟" قام  أبو قصب من مكانه وتقدّم نحو الشّيخ وهو يقول:"أنا أبو قصب يا أبو أمين صاحبك من أربعين سنه،شو نسيتنا؟!"
 
لم يصدّق أبو أمين ما سمعت أذناه إذ أنّه كان في غاية الشّوق لصديقه القديم،الذي طالما  سرد قصّته لأبنائه.
 
تعانق الشّيخان عناقًا مطوّلًا،وهما يجهشان بالبكاء ثمّ قال أبو قصب:"والله، يا شيخ لقد أقسمت أن لا أموت إلا بعدما أراك،لم تغب صورة وجهك عن خيالي كلّ حياتي؟"
 
لم يعرف أبو أمين كيف يتصرّف من شدّة الإنفعال والفرح ورأسًا طلب من زوجته "العجوز" أن تشرع بتحضير الغداء.
 
 كان هذا لقاءً حميمًا تفجّرت فيه كلّ المشاعر الإنسانيّة.
 
بعد أن سلّمت أمّ أمين ،أيضًا، على الضّيف العزيز وسألته عن أهل بيته، إنصرفت في الحال لتحضير الواجب .
 
 راح الشّيخان يتحدّثا ويستعيدا،ما تسنّى، من الذكريات القديمة...!كانت تلك من أسعد لحظات حياتهما و الفرحة أكبر عند  أمين الّذي انسجم في ذلك  المشهد الدّراميّ النّادر وكم كانت سعادته عظيمة حيث أنّه شاهد،في نهاية المطاف،  ذلك البطل الذي طالما تحدّث عنه والده خلال الأيّام الغابرة!
 
تناول الأحبّاء الطّعام وبدا كأنّ صخرةً كبيرة قد تزحزحت عن ظهرهما...فقال أبو قصب:"لقد حقّقت حلم حياتي والآن أريد أن أستأذنكم...وأطلب أن يوصلني الصّبي إلى مفرق" لعياضبّة"...لأن باص الناصرة سيمرّ من هناك بعد نصف ساعة."
 
فاعترض أمين قائلًا:"باص النّاصرة،أيّة ناصره ،لا يا رجّال ،نسيت أنّك ضيفنا؟إنّك في دارنا وأصبحت كوالدنا...والله لو كنت تسكن في مصر لأوصلناك إلى باب بيتك....إلجينه في الإيد لكن الروحه مش في الإيد...!"
 
تناول الجميع القهوة العربيّة الأصيلة والمرطّبات ودار حديث شيّق في شؤون هذه الدّنيا وبعد أن أشفى كلّ واحد منهما غليله من الآخر وظهرت ملامح...الرضى على وجهيهما،طلب أبو قصب الإذن في الرجوع إلى بلده قبل هجوم الّليل...وحتّى لا يقلق أهل بيته عليه. ثانية تعانق الرّجلان بحميميّة وبمحبّة لا توصفان.
 
 فتح أبو أمين باب سيّارة ابنه فدخلها أبو قصب وهو يقول:"لقد غلّبتكم بحالي ...وأشغلتكم...بخاطرك يا آدمي!"ثمّ أقفل الباب.بعد أن تسهّل الصديق أحسّ أبو أمين أنّ جزءًا منه قد سقط وشعر بشئ باردٍ يبلّل كرسيّ  خدّيه...إنّها  دموع المحبّة الحقيقيّة.
 
على الطّريق دار حديث عابر بين الرّجلين حول أيّام زمان...وهداوة البال الّتى ميّزت الأيّام السّابقة وعن المحبّة الصّادقة بين أهل الوطن الواحد. مرّ الوقت بسرعةٍ ،وصلت السيّارة ساحة دار أبي قصب ونزل منها وهو يحمل صديقه الكرسيّ...وينادي على زوجته وأبنائه ،فأقبل بعضهم ،وراح يعرّفهم على ابن صديقه القديم،أبي أمين.
 
بعد السّلام والكلام غادر أمين المكان عائدًا من حيث أتى وهو يحمل في مخيّلته درسًا من دروس الوفاء والإخلاص والشهامة لن ينساه ما دام حيًّا! 
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق