الانفصام الديني بين الغيب والحضور - كميل فياض
2013-10-06 10:26:47
الايمان الديني هو الاتصال الروحي مع جوهر الوجود (الله) بالقوة ، بينما التجربة العرفانية الصوفية هي الاتصال بالفعل . المؤمن ازاء الله كأعمى يشعر بحرارة الشمس ، ولذلك هو يؤمن بوجودها ، لكنه يخلق لها صورة في عقله وفي خياله مغايرة لها .. بينما العارف هو المبصر المتصل بالحقيقة كما هي .. و " يهدي الله لنوره من يشاء" اي من يشاء الهداية ، "ويضل من يشاء" اي من يشاء الضلال ..
التعامل في هذا المجال يقتضي منا الانفتاح النفسي والعقلي الكاملين ، ويتطلب منا الموضوعية والحيادية التامتين ، والا فمخزوننا الثقافي ، عقائدنا ، آراؤنا ، ميولنا ، مزاجنا ، كل ذلك يمنع من الوصول الى الحقيقة ..
فالحقيقة ، حقيقة وجودنا هي قضية معرفية يستهدفها الذات، وهي قضية الوعي الاساس فينا قبل اي شيء  .. وتحقيق المعرفة بوجودنا هو تحقيق للطمأنينة ازاء هذا الوجود ،وتحقيق للحرية ، حيث لا طمأنينة ولا حرية بلا يقين بحقيقة الوجود ، كما لا طمأنينة ولا حرية لأعمى في غابة ..
واحدّد هنا موضوعات المعرفة التي يجب ان تكون يقينية حتى نحصل على حرية الوعي والطمانينة  .
واهمها مصدر وجودنا ، الذي اسمته المعتقدات الدينية المختلفة باسماء كثيرة ، من اشهرها الله ، الرب ،برهمن ، تاو ، يهوه ، كرشنا ، زيوس ..الخ بعد ذلك ينكشف معنى  الخير ، الحرية ، السعادة ، والجمال تلقائيًا ، كجزء لا يتجزأ من ماهية الذات فينا .. فاذا استطعنا الكشف عن الحقيقة الكامنة وراء اسمها الحرفي واللفظي ، كمصدر لوجودنا حصلنا على الطمأنينة وعلى الحرية ، كالتي يحصل عليها الاعمى في تلك الغابة بعد عودة النظر اليه ، وقد تسلح باقوى سلاح .. 
وهنا لا بد من نشوء اعتراضات مختلفة على هذا التوجه .. منها : قد يقل قائل: مَن نحن كبشر حتى نبلغ معرفة الله او الكشف عن سره ، او سر مصدر الوجود ..؟!
الم يرسل الله رسلا وانبياء بمعارف محدودة ازاء حقيقته واسراره الذاتية ؟ فمن انت او غيرك من البشر حتى يتجاهلهم ويتخطاهم ليقتحم ما ليس له فيه ؟
وهذا عمليًا هو العائق الاساس بالنسبة لجميع المؤمنين بالغيب من كل الاديان ..
رغم وجود مستنيرين برزوا بين ظهرانيّ اتباع جميع الاديان ، حيث لاق البعض منهم ما لاقاه من سوء معاملة .. فقوة الايمان في نفوس المؤمنين قوة رهيبة مقترنة بالتزمت والغيرة والاخلاص والتقديس ، بما لا يسمح للمواجهة مهما كانت قوية مقنعة وراقية وصادقة .. لكن لو نسأل مؤمن قد سلم عقله وروحه ومصيره للغيب الذي أوكلَ الى وسطائه "السماويين" مهمة خلاصه وسعادته وأمنه  : لماذا يكون معتقدك  بالذات هو الاوثق والاصدق ، والاختلافات بين المؤمنين من جميع الاديان اكثر من ان تحصى  ؟  هل هناك اكثر من اله .. بحيث كل يعمل على طريقته مثل ارباب التفسيرات والفتاوى والشروحات والتأويلات .. ؟  ام ان هناك اله واحد هو القائم وراء تلك البلبلات ..؟  ولماذا يبلبل الله ويضرب مخلوقاته بعضهم ببعض ، وهو العادل والعدل، والرحمن والرحمة ، والمحق والحق ..؟ لماذا يترك شعوبًا تنهار وتشقى تحت حراب شعوب اخرى ظالمة ..؟  ما معنى موت الوف الاطفال سنويًا، يفتك بهم الجوع والمرض ، وهو القادر على كل شيء فوقهم ..؟! وغير ذلك من وجاهة الطرح ، فيما يتعلق بالكوارث الطبيعية ، التي تدمر دور العبادة على من رفع الدعاء والضراعة للنجاة من شرور النفس والخلق .. طبعا انا هنا لا احاول ولا اقصد ان انفي  وجود خالق شخصي مصمم مهندس ومخرج لمسرحية الخليقة في ستة ايام - لو امكن ذلك - في فضاء خلا  قبلها من الشمس والارض ، حيث لا يمكن بغيرهما  حدوث ايام ،ولا يصح ان يقال في اول يوم خلق كذا .. بدونهما ( اي الشمس والارض).. كما استنتج جدي شحادة في نقاشه لاحد خوارنة القرية حول خلق العالم .. بكل الاحوال اعتراضي ليس على وجود غير مادي قبل نشوء الكون،   بل على التفكير الايماني الذي خلق قصة الله (الخالق) على اساس القياس السببي كما يظهر في الحياة الحسية في - فاعل ومفعول وصانع ومصنوع ، بمستوى الفعل ورد الفعل البشريين الطبيعيين - هذا المنطق التقليدي الذي استطاع اينشتين اسقاطه على المستوى العلمي ازاء الكون وقوانينه وعلاقاته ، لم يستطع احد حتى الآن اسقاطه على المستوى الديني ازاء الله ، قوانينه وعلاقاته ، ذلك ان الدين لدى المعظم بخلاف العلم لا يحتاج الى يقين وتحقق ، بل فقط  الى ايمان واعتقاد ، وفي ذلك لا يجدي نقاش ، ولا تنفع حجة .
فخلاصة جميع الاجوبة الصادرة عن رجال الدين عموما لتلك الاسئلة تقول : ( هي حكمته ولا يعلم  بحكمته احد من خلقه .. عقولنا قاصرة ) .. طيِّب انا افهم عندما يتحدث شخص باسمه هو فقط  ويقول : انا لا اعرف ..
ولكن اي منطق في قوله نحن لا نعرف ولا احد يعرف .. كيف عرف ان غيره من جميع الناس لا يعرف ..؟ وكيف عرف ان الوسيط "السماوي" الذي سلم له عقله وروحه ومصيره يعرف حقيقة  الله  وحقيقة الخلق .. أليس النفي السابق لإمكانية المعرفة عن الجميع ،داخلة في معادلة واحدة مع اثبات العلم للوسطاء السماويين ، طالما انه لا يعرف كيف أولئك لا يعرفون ،ولا يعرف كيف هؤلاء يعرفون .. وما معنى ان يثبت المؤمن شيء بالايمان وينفي شيء بالايمان ..؟!  طيب مرة اخرى .. اذا كان الله وراء الاديان .. لماذا يغيِّر اقواله في كل مرة ومع كل نبي ورسول .. ! هل يعقل مثلا ان يقص لليهود قصة خلقه للعالم ، بصورة مختلفة عما قصها للمسيحيين ، ثم ينقلب على المسيحيين بقصة مختلفة للمسلمين عن القصتين السابقتين ، حيث جعل له يوم راحة بعد عملية الخلق يناسب اليهود وهو يوم السبت ، بينما اختار الاحد للمسيحيين ، والجمعة للمسلمين . وقد يكون اختار ايام اخرى في معتقدات اخرى تناسب احوال واذواق اصحابها ! ..  تصور لو مَثَلَ انسان – سواء مدع او شاهد - امام قاض كإله الديانات ذات الطابع الثنائي لفهم الوجود، في محكمة عدل عليا يوم الحساب .. باي منطق سيدلي باقواله وحججه في القضايا المتهم او الشاهد فيها ..؟!  أبمنطق التوراة ، ام بمنطق الانجيل ، ام بمنطق القرآن ، ام بمنطق الزندافستا ، ام الفيدا ، ام  ربما الالياذة. الخ  وهذا القاضي بدوره بأي قانون وبأي كتاب سيحكم ؟!
اقول ان الحل الوحيد هو التمرد والانقلاب  والثورة على تلك المحكمة بقضائها وقضاتها ووكلائها وحراسها .. ثم التوجه بصورة مباشرة الى مصدر الوجود  الحقيقي الحي فينا وفيما يتعدانا ، كما هو بالذات وكما يعطي مباشرة ما لديه ..
وأول وسيط يجب التمرد عليه واسكاته في حضور الوعي هو فكرنا الايماني ، الذي هو خالق جميع الوسطاء المحرفين المزيفين المشوهين والحاجبين للحقيقة – بارادة وبغير ارادة منهم ، اذ هي طبيعة الفكر الايماني .     
ولذلك فان الثورة المطلوبة هنا ليس ثورة قتال فيزيقي خارجي ، وانما ثورة قتال  روحي باطني اولا ، ثم خارجي واقعي على كل الديانات وعلى كل الخرافات ، التي لا تزال تفصم روح الانسان بين غيب  وواقع ، وتقاتل بعضها في سبيل اوهام طالت سيطرتها وهيمنتها  على نفوس الملايين من البشر . وقد منعتهم من التفكير في حقيقة وجودهم ، وحرّمت عليهم  مجرد التساؤل عن  "الخالق" دون تأنيب من ضمير .. لأن الضمير الانساني دُّمِر ، قبل دخول المدنية الوضعية المنحرفة هي الاخرى ساحته ، بعقلية الانا والتنافس الاستهلاكي العبثي . دُّمِر بمعتقدات (اهل السماء) الذين باعوا عقولهم لغيوب ساخرة بهم وبمعتقداتهم . وقد افرزت  لهم الجهل والتعصب الفارغ والتكفير الاجرامي الخفي والعلني لبعضهم البعض، في قضايا كلها باطلة ، لا علاقة لها بحقائق وجودهم الحاضرة معهم حضور ارواحهم . اما الشفاء من هذا الفصام الذي اصاب مليارات البشر عبر التاريخ من شتى الاصنام الفكرية والاعتقادية ، يبدأ باعادة النظر جذريا فيما ورثوه من معتقدات ، وبالعمل على تحرير عقولهم ونفوسهم ووجداناتهم ومشاعرهم بالمعرفة الحقيقية لوجودهم . اي ليس باصلاح وترميم ما هو قائم وسائد ، بل بنسف كل البناء المعتقدي الميتافيزيقي التاريخي من الاساس . دون حاجة لاي بناء بعد ذلك . فالحقيقة  ببساطتها وتواضعها وعظمتها وصمتها ، حاضرة  ابدا حضور الوجود روحًا وحسًا ..
 نظام الحياة قائم  ويجب فقط  الانتباه له ، كل فكرة مضافة اليه هي تشويه وحَجب .    
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق