في المعانى المبطّنة لانتخابات السّلطات المحليّة بقلم بروفيسور أمل جمّال
2013-09-27 20:49:27

الفكرة الديموقراطية أتت لاستبدال الولاءات العصبية الفئويّة العمياء والقسريّة بالعقلانيّة التداوليّة، وتحكيم إرادة الأفراد على مصيرهم. كما أنّها أتت لتقويض التحكم القسريّ لمجموعة محدودة من النخبة المنزهة عن آلام أغلبية الناس البسيطة، والتي تعاني الأمرّين ماديًّا وروحانيًّا، بمصيرهم ومستقبلهم. هذا التّحول لم يأتِ عفويًّا وليس من فراغ. إنّ التّجربة الإنسانيّة المتأرّخة تظهر أنّه من الممكن تلخيص سبعين ألف سنة من التّاريخ المسجّل، بتراجع القوة القسريّة من أجل الحفاظ على النظام، وبرمجة الحياة الاجتماعيّة، وبادّعاء ضمان حياة مستقبليّة أفضل. قوبل هذا التراجع ببروز الإرادة العقلانيّة للتّداول المشترك في شؤون الحياة. هذا التّحول يعني ظهور السياسة، التي تعني تسيير الخلافات المجتمعية بطرق وآليات عقلانية وحضارية تحترم إرادة الإنسان وتصون حرمة جسده، وظهور القانون الذي يعني الالتزام بنظام وقواعد سلوكيّة عامة وملزمة بشكل متساوٍ لجميع أفراد المجتمع. من نافل القول أنّ هذا التحول لم يطرأ في فترة وجيزة، ولم يكن محض برنامج مسبق لحدوثة، ولم يكن شاملاً لكلّ فئات المجتمع في بداياته. إنّ التّحول الديموقراطيّ يعني تنظيم التنافس بين المصالح والرؤى المختلفة في المجتمع، دون التّغاضي عن نزاعات القوة، ومحاولات مجموعات مستنفذة فرض إرادتها بالقوة أو استثناء فئات مستضعفة مثل النساء والفقراء.من هنا ممكن الاستنتاج بأن عمليات الدمقرطة لا تسقط من الخارج، وإنما تنبع من قناعة مجتمعيّة داخليّة، وقناعة بأنّ التداول العقلاني في الخلافات هو الأكثر نجاعةً واحترامًا لعقل الإنسان وجسده، والأكثر بنّاءً على المدى الطويل. هذا يعني أنّ التّداول الديموقراطيّ ليس مجرد سلوكيات شكليّة تحدث مرة كل أربعة سنوات، بل هو ثقافة مذوّتة عند أفراد المجتمع، الذين ينخرطون في صراعات بنّاءة لترجمة رؤيتهم الفكريّة ومصالحهم الماديّة إلى سلّم أولويّات منظّم تقوم على تنفيذه السّلطة المركزيّة أو المحليّة. قوة الفكرة الديموقراطيّة تكمن في كونها مفتوحة وقابلة للنقد الذاتي والتغيير المستمر، ولا تقبل الحقائق المسقطة من خارج إرادة المجتمع، ولا تتماشى مع الحتميّات العقائديّة، ولا مع العصبيّات الفئويّة العمياء. لأنه لا حقيقة أو عقيدة تترفع عن إرادة المجتمع كأفراد ومجموعات.
العمليّة الديمقراطيّة الانتخابيّة تتمثل بالتّنافس على إرادة جمهور الناخبين السياسيّة، الذي يعتبر صاحب المرجعية الأساسيّة في تحديد القائم على تنفيذ طموحاته المستقبليّة وكيفيّة توزيع الموارد في المجتمع.هذا ينطبق أيضًا في انتخابات الحكم المحليّ، والذي يعتبر قوّة أساسيّة في حياة المواطنين، حيث  يوفّر الخدمات الحياتيّة الأساسية ابتداءً من البنى التحتيّة، مرورًا بالخدمات الصحيّة، وصولا إلى التّأثير على عمليّة التثقيف والتّربيّة في المؤسسات التعليمية التي تعمل داخل إطار سيادة السّلطة المحليّة. بناءً على ذلك فإن الجانب الخدماتيّ للسّلطة المحليّة يعكس مدى نجاعة هذه السّلطة في ترجمة إرادة المواطنين إلى سياسات عمليّة في مجالات حياتيّة مختلفة. عندما نتحدث عن السّلطة المحليّة فنحن نعني أنّها تتمثل بالمزج بين سياسيين منتخبين وتيكنوقراطيين قائمين على تنفيذ السّياسات التي يضعها ممثّلو الجمهور. من هنا ينبع أنّ جودة عمل السّلطات المحليّة تتعلّق بمدى التّوافق بين مستوى القيادة السّياسيّة المنتَخبة والقدرات التّنفيذية للموظّفين المعيّنين في الجهاز التنفيذيّ في هذه السلطات.
عمليّة الانتخابات في السّلطات المحليّة لا تدور في فراغ، وإنـّما في إطار ثقافة سياسيّة محليّة مرتبطة ببنية اجتماعيّة واقتصاديّة، تحدد أنماط السّلوك السّياسيّة المتاحة في المجتمع. لهذا فإنّ العمليّة الانتخابيّة هي مؤشّر قاطع لطبيعة الثّقافة السّياسيّة المحليّة السّائدة، ولقدرة القوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة، على التّجاوب مع التّحدّيات التي تطرحها المنافسة السّياسيّة لقيادة المؤسّسة المنتَخبة. صحيح أنّ عمليّة التّنافس تحكم بموجب القانون الانتخابيّ، ولكن الأهم من ذلك العوامل المحلّيّة التي تحفّز على استعمال آليّات محدّدة لدفع مرشحين معيّنين على حساب آخرين. لهذا من الممكن اعتبار الانتخابات مرآة لقدرة الجمهور وقيادته على تطوير سلوكيّات سياسيّة تنافسيّة، تضع نصب أعينها المصلحة العامة، وتخفّف من وقع الاعتبارات الشّخصية.من الواضح أنّ المصالح  الشّخصيّة هي عامل مركزيّ في كلّ عمليّة سياسيّة شرعيّة. لكن قدرة المجتمع على تغليب المصلحة العامّة على الشّخصية، في حال التّضارب بينهما، هي مقياس أساسي لمدى نضوج المجتمع في تحديد مستقبله وتطوير قدراته بشكل بنّاء وحضاريّ. لا يوجد مجتمع بدون نزاعات وخلافات على الموارد العامة، لكن ما يميّز المجتمعات الديموقراطيّة النّاجحة هو استبدال التّناحر والنّقمة المبنيّة على عصبيّات فئويّة عائليّة، بالمنافسة المفتوحة بآليات عقلانية وخطاب سلميّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ السّياسة لا يمكن أن تتغلّب على كل الخلافات في المجتمع، وأنّ السّياسة تعني تنظيم الخلافات بشكل بنّاء وحضاريّ، وليس محوها أو كنسها تحت بساط التآخي الكاذب أو الهيمنة القسريّة. وما يميّز القيادة الناجحة عن الفاشلة هو ليس قدرتها على البلطجة والتلفيق والتزوير وإنما ترفّعها عن المصالح الفئويّة الضّيقة واتّباع المصلحة العامة، حتى وإن أدى ذلك لفقدان بعض الدّاعمين في بعض الأحيان. إن أصحاب المصلحة الضّيّقة يمكن إرضاؤهم كلّ لحظة، لكن من الصعب الحظي بدعم الذين ينظرون للسّياسة من منظار المصلحة العامة، ويفضّلون العقل والضّمير على الولاء الأعمى.
التّجربة الانتخابيّة في القرى والمدن العربيّة المختلفة عكست ثقافة سياسيّة قاصرة في كثير من الأحيان، أدت إلى تجاوزات قانونيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة لا تتماشى مع المفهوم العميق للعمليّة الديمقراطيّة، التي أتت لتؤكد على نضوج الإنسان الفرد، وإعطائه المجال لتحديد إرادته بشكل عقلانيّ ومستقل. إنّ العنف المستشري في المجتمع العربيّ والتّجاوزات القانونيّة التي اتّصفت بها العمليّات الانتخابيّة في السّابق، تسحب البساط من تحت العمليّة الديمقراطيّة بمجملها، وتفرّغ العمليّة الانتخابيّة من أيّ مضمون حضاريّ. أبقى هذا السلوك من قبل القيادات السياسيّة المحليّة السلطات المحليّة عارية من أيّ اعتبار أخلاقيّ، وشرّع بشكل غير مباشر اقتحام حرمتها، واستغلال مواردها، وسحق موظفيها من قِبل من هم قائمون عليها، والذين كان من المفروض أن يسيَّروها كمورد عام لمصلحة كل فئات المجتمع. لقد تحولت السلطات المحلية إلى آلية لكسب الموارد الماديّة باسم العقليّة العائلوقراطية والتّسلط الفئويّ أو العشائريّ على حساب تطوير المنظومة الحياتيّة السائدة في المجتمع، والاستجابة لمتطلبات الأجيال الشابة، والتي تتوقع الكثير من قيادة مجتمعها، لكي تستوفي حقها في حياة سعيدة وحضاريّة. كما أنّ الولاء الفئويّ تم تفضيله على العقلانيّة والاتّزان في التّعامل مع الموارد العامة، التي تمت استباحة حرمتها بشكل فاضح لحسابات شخصيّة. من الصّحيح أنّ الموارد الماديّة المتاحة شحيحة، وبدل أن يتم عقلنة استعمالها بالشكل الأنجع والأفضل لمصلحة المجتمع، تم تسخير الموارد العامة في الكثير من الأحيان لشراء الذمم وتطويع المخالفين والانتقام من المنافسين. 
من أجل تنجيع وإنجاح العمليّة الديمقراطيّة الحقيقيّة في الانتخابات بشكل عام، وفي انتخابات السّلطات المحليّة بشكل خاص، هنالك حاجة لتعّهدات من قبل القائمين على العمل السياسيّ، لضبط العمليّة الانتخابيّة، والحدّ من تدهورها إلى معركة تُبقي من خلفها جروحًا اجتماعيّة ونفسيّة، تلقى متنفّسًا لها في عمليّات انتقاميّة، تسفر عن تعميق الهوّة بين القوى السياسيّة المختلفة في المجتمع، وتعمّق تقطيع أوصال المجتمع المنهك - على أية حال - بأعباء ماليّة واقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة. ولكن من المهم الإشارة إلى أنّ التعّهدات أو الميثاق ليس مجرد شعارات يتغنى بها السياسيون، وإذا لم ينبع من إرادة حقيقيّة ومقاصد جديّة للالتزام به من قبل كل فئات المجتمع، فلا حاجة لمستند إضافيّ نبيّض به صفحتنا ونرمي بأسسه عرض الحائط عند الممارسة العمليّة للعمل السياسيّ. تظهر التّجربة في المجتمع العربيّ أنّ التّوجه السائد لأسس ومبادئ العمل السياسيّ هو شكليّ، ولا التزام حقيقيّ بالمبادئ وأخلاق العمل الجماهيريّ. لا شك أنّ هذا النّمط يؤدي إلى تفريغ العمليّة الديموقراطيّة من مضمونها، حان الوقت لكي يتمّ التفكير من جديد بهذا الموضوع وخلق ثقافة سياسيّة تتماشى فيها الكلمة مع الفعل.
 إذا كان هذا التّوجه ممكنا فمن أهم الأسس والتّعهدات لأي ميثاق هي:
1. الالتزام بعمليّة سياسيّة تنتظم بحسب قواعد التّعدديّة الفكريّة والحزبيّة وشرعيّتها.
2. الالتزام بممارسات سياسيّة مبنيّة على الاحترام المتبادل وحل الخلافات بطرق حضاريّة كنموذج بنّاء أمام الاجيال القادمة.
3. نبذ العنف بكل أشكاله: الجسديّة، الكلاميّة، والرمزية، كدلالة على نضوج المجتمع وقدرته على إدارة خلافاته بشكل حضاريّ.
4. احترام كون الانتخابات عمليّة تنافسيّة تشرّع الخصم، وليست معركة تهدف لضحد المنافسين من السّاحة السّياسيّة.
5. تأكيد كون الانتخابات آليّة لتطوير ثقافة سياسيّة تنافسيّة مبنيّة على التّواصل العقلانيّ والاحترام المتبادل.
6. استعمال آليّات حضاريّة للتّرويج والإقناع، تحترم عقل النّاخبين، وتوفّر لهم نماذج للتّعامل مع الخلافات والاختلافات.
7. الامتناع عن استغلال الفئات الضّعيفة لشراء الأصوات، والامتناع عن الابتزاز الماديّ والنّفسيّ للضغط على الناخبين.
8. الابتعاد عن التّجريح الشّخصيّ، والتّمحور في المواقف والسّياسات للمرشّحين رؤساءً وأعضاءً.
9. ترسيخ فكرة أنّ شرعيّة الانتخابات نابعة من كونها تعكس إرادة المجتمع، وليست من كونها آلية لتنفيذ مآرب شخصيّة ضيقة.
10.تقبل مبدأ سيادة الجمهور على قراره في حالة النجاح كما في حالة الخسارة، والحدّ من الانتقام من الخصوم السياسيين.
10- الالتزام بخدمة جميع مواطني البلد بالرغم من مواقفهم واختياراتهم خلال العملية الانتخابيّة.
11- العمل على صيانة حرمة المؤسسات العامة، وترسيخ كونها ملكًا عامًا يعكس سيادة الجمهور على نفسه.
إنّ التّعهد بالالتزام بهذه المبادئ يعني ممارستها بشكل منهجيّ ودائم وشفاف، حيث أنّ القيادة تعني تقويم المجتمع وإعطاءه إمكانيّات سلوكيّة تظهر أنّه لا تناقض بين السّياسة والأخلاق. إنّ الديمقراطيّة - بالرغم من نواقصها- هي نظام سياسيّ أخلاقيّ، وثقافة تنافسيّة مبنيّة على عقلانيّة الإنسان وحضاريّته، وقد أتت لتحدّ من تحكّم قانون الغاب في المجتمع. من هنا فإن التّعهد الكلاميّ، الذي لا ينعكس في سلوكيّات عمليّة تؤكّد هذه المبادئ، يفرّغ كلّ العمليّة الديمقراطيّة من معانيها، ويعطي الشّرعيّة لاستعمال آليات تضع المجتمع في خطر وتهديد دائم. لهذا على قيادات المجتمع، وعلى رأسهم المرشحين في الانتخابات المحليّة، عدم خلق جو يتيح التجاوزات، والتغاضي عن المبادئ المذكورة أعلاه، لأن القيام بذلك يدلّ على الرّؤيا المحدودة لهذه القيادات، وعلى ضعفها، وعدم قدرتها على طرح نموذج بنّاء للقيّادة المسؤولة، التي تمنح المجتمع الأمل بأنّ الاستجابة لطموحاته ممكنة بالرغم من أنّها ليست حتميّة. يجب أن لا ننسى أنّ الديموقراطيّة هي نظام يفتح المجال للتّصحيح والتّقويم المبنيّ على الحظي بثقة الجمهور. من الجائز أن تحظى القيادة التي لا تتعلم من أخطائها، ولا تقوّم سلوكها، بثقة الجمهور لفترة قصيرة، ولكنها لا تستطيع أن تسخّر عقول الناخبين لفترات طويلة. لهذا على كل مرشّح وضع نصب أعينه ثقة الجمهور وإرادته، لأنهما مرجعيّة القيادة الصّحيحة، التي حتى وإن ولّت فترة حكمها تبقى مخلّدة في الذّاكرة كمثال يحتذى به، لها تأثيرها حتى وإن لم تكن في السّلطة، بدل أن تشكّل إنذارًا أو خطرًا يجب ازدراؤه وتجنّب تذكّره.  

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق