من يوميات امرأة شقية بقلم امال ابو فارس
2012-07-26 16:23:02

تقلبت في فراشي عندما أعلنت الساعة منتصف الليل، ولم استطع النوم. نظرت إلى ابنتي حلا التي تنام بجانبي، وقد أرسل ضوء المصباح نوره على وجهها، فانعكست صورة لقطرات من الماء تلمع فوق جبينها. وضعت يدي على رأسها وتحسسته، كانت حرارتها مرتفعة جدا. فقمت لتوّي وأحضرت قطعة من القماش مبلولة بالماء، ووضعتها فوق جبهتها لتمتص الحرارة، ثم جلست، وحملتها بين ذراعي. لقد كانت أناملي تداعب خصلات شعرها الناعم فتنبعث منها إلى جسدي مشاعر غريبة فيخفق لها قلبي.
أخذت الدموع تنهمر من عيوني لتسقط على وجهها، مسحتها بيدي وقبلتها برفق. حلا ابنتي الغالية التي منَّ الله  بها علينا بعد عشر سنوات من الزواج مريضة بالحمى. كم فرحت عندما عرفت أنني سأرزق بطفل صغير، بعد هذا الانتظار الطويل. شعرت حينها أن أبواب السماء فتحت لي وحدي، وبان الله يفعل المعجزات من أجلي أنا فقط!
لكن الحمد لله! فأن ولديَّ أيمن ونعيما ليسا مريضين. لقد لعبا "بشقاوة" كبيرة قبل أن يناما، وها هما يغطان في نوم عميق. ما اجلهما! إنهما توأمان متشابهان، رزقنا بهما بعد حلا مباشرة. حسبنا أن الحياة ستصبح جنة بعد أن رزقنا بثلاثة أولاد. ففي الوقت الذي حلمنا به بطفلة أو "نصف طفلة"، أرسل لنا الله ثلاثة ملائكة. بعد أن رزقنا بهم، سقطت المصائب فوق رؤوسنا الواحدة تلو الأخرى. عجبا لهذه الدنيا، إذا أعطتك شيئا لا تلبث أن تسلبك أشياء! إنها لا ترضى العطاء بدون مقابل.
سهرت ساعات على ضوء المصباح الشاحب وأنا احمل حلا في حجري. لم ارغب في إرجاعها إلى الفراش؛ لأني شعرت بطمأنينة وهي نائمة كالملاك بين ذراعي. تذكرت نفسي وأنا صغيرة حين كنا نصطف عندما ننام  إلى جانب بعضنا البعض، بصورة تلقائية من الصغير إلى الكبير. وكانت أمي تنام في بداية الصف بجانب أخي الصغير أمين؛ أما أبي فينام في آخر الطابور إلى جانب أخي الكبير سليم. فشعرت بالحنين إلى تلك الأيام التي طوتها السنون وأصبحت ذكرى لا أكثر. لقد ولت أيام الطفولة وولت أيام الشباب، وأنا الآن أم لثلاثة أطفال، لم يتجاوز أكبرهم الخامسة من عمره.  
وضعت حلا من يدي برفق إلى جانبي، وقد ملأ صوت شخير زوجي حامد الغرفة، فحال بيني وبين أي محاولة للنوم. كيف لا، وزوجي المسكين أمضى يومه مع الأولاد الثلاثة منذ الفجر وحتى ساعات المساء. زوجي حامد الطيب لا يجيد تربية الأطفال، لكنه مجبر إذ لا مفر لنا من ذلك؛ بالرغم من انه يعاني آلاما مبرحة في كل جسمه. لقد أصيب أثناء العمل وأصيب بكسور في ظهره ورجليه، ولازم الفراش مدة شهرين من الزمن، حتى اضطررت إلى البحث عن عمل بدلا منه. لقد كان يعمل مساعدا لمقاول من القرية.
 أما أولادنا الثلاثة "الأشقياء"، فلا يكفون عن اللعب والعبث بأغراض المنزل، القادم إلينا يظن بأن انفجارا وقع في البيت، وبعثر أغراضه على هذا النحو. عليه أن يركض وراءهم طيلة اليوم، كما عليه تحضير الطعام، وتغسيل الأولاد، وترتيب ما استطاع ترتيبه في المنزل. أنا أشفق عليه كثيرا لكن ما بيدي حيلة، يبدو أنني نسيت أن أشفق على نفسي أيضا، فانا اعمل منذ ساعات الفجر حتى المساء، لأقوم بالأعمال المنزلية عندما أعود من العمل، لأريح زوجي بعض الشيء.
بقيت ساهرة طوال الليل ولم يغمض لي جفن، نظرت من النافذة بعد ساعات طوال، وإذا بالصبح ينبلج بنوره الشاحب. شعرت وكأن رجلي قد شدتا بكتلة من حديد إلى الأرض، لم استطع النهوض من شدة التعب لكنني أعدت المحاولة، فانطلقت نحو الحمام، غسلت وجهي وفمي، ثم جلست احتسي كأسا من الشاي.
ما هي إلا لحظات وإذا بصوت سيارة في الخارج. حملت حقيبتي التي أضع فيها هاتفا خلويا، وبعض المحارم الورقية. صعدت إلى السيارة وجلست بجانب النافذة انظر إلى ما تقع عليه العين من خلال النافذة التي تجتاز القرية. لقد ساد صمت رهيب في السيارة التي تقلنا، إذ لم يرغب احد بالحديث. إلا أن صوت المذياع المنخفض كان يشق عباب الصمت معلنا النشرة الإخبارية الصباحية باللغة العبرية.  يبدو أن المذيع يتحدث عن المظاهرات التي تجتاح العالم العربي. لم افهم كل شيء قاله المذيع، لكنني خمنت بعضا منه. ضحكت ضحكة صفراء لما يحدث في هذا العالم، لا احد راض عن حاله، كلٌ يبحث عن المجهول: يظهر أنني لست التعيسة الوحيدة في هذا العالم، بل يبدو انه مليء بالأشقياء. وفي لحظة عابرة تذكرت ابنتي حلا المريضة،  فدمعت عيناي وشعرت بحزن عميق، وخاطبتها دون كلام لعلها تعذرني: يقولون أن الأفكار تطير مع الهواء، فلعل اعتذاري يصلها، إن إهمالي لها لا يوصف. أتوجد أم في هذه الدنيا تترك ابنتها مريضة تعاني من الحمى وتذهب إلى العمل؟ يتقطع قلبي في كل ثانية عندما تمر صورتها في خيالي، لكن إذا ما تعطلت عن عملي سيخصم مبلغا من راتبي، فكيف نتدبر أمرنا حتى ينتهي الشهر؟ ماذا سنأكل؟ ومن أين سنعيش؟ فمعاشي هو كل ما نملك حتى لا نمد يدنا لأحد. أما زوجي حامد، فعليه أن يفتش عن محام كي يحصّل له حقوقه، ويدفع له أجره الشهري من التامين القومي، وهذا الأمر يتطلب الكثير من المال، ونحن لا نملك سوى ما يسدّ جوعنا ويستر عرانا.
نزلت من السيارة مع باقي الفتيات اللواتي يعملن معي، فوطأت قدماي ارض المصنع الذي انتصب في منطقة بالقرب من مدينة حيفا. قضيت يومي في العمل، ولم ارغب في الحديث مع احد. فألا فكار لا تفارق راسي، ولست متفرغة للحديث أو للاستماع لأيّ كان. انتظرت انتهاء اليوم بفارغ الصبر، وعندما أعلنت الساعة الخامسة مساء، صعدنا إلى السيارة، وجلست في الكرسي الأخير بعيدا عن العيون. تناولت الهاتف الخلوي واتصلت بزوجي لأطمئن على صحة حلا، لعلها تحسنت بعض الشيء. لقد اخبرني زوجي بأنها تلعب مع أخوتها، وبأنها بخير، فقد أعطاها جرعة من الأكامول، وتحسنت في الحال. فحمدت الله على ذلك ودبت الحياة في نفسي من جديد.
 طلب مني زوجي أن أصل أثناء عودتي إلى دار البريد؛ فقد تلقينا رسالة في البريد المستعجل وضعت في صندوقنا الخاص. وكان قد وضعها في جيب من جيوب حقيبتي. نزلت من السيارة وانطلقت مهرولة كي استلمها، لعل هناك ما يبشر بالخير. وصلت دار البريد وأخذت الرسالة بيدي ووقعت على استلامها. لم افتح الرسالة بل أعطيتها  إلى زوجي حال وصولي إلى المنزل... فتحها... وقرأها... ورمى بها إلى الأرض بغضب... وأخذ يسب ويشتم، وبدا كمن أصيب بنوبة عصبية.  خفت منه كثيرا لأني لم أره على هذه الحالة من قبل. فبالرغم مما نعانيه من جوع وفقر، وبالرغم من الألم الذي ينتابه أحيانا بسبب الكسور في ظهره، وبالرغم من تعبه مع الأطفال، فانه نادرا ما يغضب أو يعلو صوته في المنزل. انه يحاول دائما كبت مشاعره الحقيقية كي لا يجرحني أو يحرجني. 
سألته عن فحوى الرسالة وعن سبب ثورته، فأجاب: "إنها من السلطة المحلية،  إنها رسالة إنذار أخيرة، علينا دفع الضريبة وثمن المياه وإلا سيضطرون إلى قطع الماء الموصلة إلى بيتنا، أو حجز المعاش".
فصرخت قائلة: عن أي معاش تتحدث؟ فأنت لا تعمل! أجابني بحنق ممزوج بالحزن: معاشك أنت!!
رفعت يدي إلى السماء كمن لا يملك حيلة وصرخت بأعلى صوتي:
 يا رب! هون علينا الأمور الصعاب، وخلصنا من هذا العذاب! فأنت الكريم الوهاب.
 يا رب! إذا كان ما ابتليتنا به عقابا، فاجعله قصير المدى! وابعث في نفسينا الأمل لنتخطى هذه المحنة.
يا رب! انشلنا من هذا الضيق كما نشلت من الجب يوسف الصديق.
يا رب! الشكوى لغيرك مذلة والطلب من غيرك مهانة. فلا تغلق في وجهنا الأبواب، بحق من انزل الكتاب.
يا رب! أنت تهب من تشاء وتحرم من تشاء، لقد أنعمت علينا بزينة الدنيا، فلا تحرمهم نعيمها. اجعلهم يعيشون   كباقي الأطفال...
مرت لحظات من الصمت، نظرت أمامي وإذا بزوجي ممسكا بيدي، وعيناه محمرتان كالجمر. هرع إلينا أولادنا، فأخذت حلا بين ذراعي، وحمل زوجي أيمن ونعيما بين يديه، واتجهنا نحو المائدة لتناول العشاء الذي حضره لنا زوجي حامد!...

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق