نظرة تمعن في الثورات العربية
2011-06-09 21:31:07

بقلم:طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه الجليل

بما أن غبار الدهشة قد انقشع عن الأعين واتضح لكل ذي بصيرة أن ثورتي تونس ومصر ما هي إلا مركز الزلزال السياسي الذي ضرب المنطقة العربية بكل عنفوان وقوة وليست حوادث وظواهر جزئية كما توهم بعض بلطجية مراكز الدراسات العربية .
وبما أن الواحد منا لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتابع سيل الأخبار المتدفق من هنا وهناك فلا بد لنا من وقفة تعبوية كما تفعل الجيوش بين كل معركة وأخرى لنتعرف على أهم الخبرات التي خرجنا بها من ثورتي تونس ومصر ثم نوظف ذلك في بقية ثورات الشعوب العربية .
طبعا أول ما يمكن أن يقال هنا هو أن هذه الأحداث قد تفجرت وتطورت واستمرت بالإنتشار بشكل يوحي بأن هناك أمر رباني عظيم وحكيم ولا يجابه بأي شكل من أشكال القوة والمكر . ولست بصدد الحديث عن الظلال الشرعية والتربوية للأحداث ولكن القصد هنا أن هذه الربانية لم تتركنا أمام هذه الأحداث العظيمة دون أن تعطينا إشارات وخطوط عريضة لما يمكن لنا أن نفعله وكيف نفعله ؟ فالله عز شأنه قد جعل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على مرحلتين مكية ومدنية ولكل واحدة ظروفها الخاصة فيما يمكن عمله بحسب القوة والضعف والأمن والخوف لتقتدي الأمة من بعده بهذين النموذجين في السلم والحرب و حالتي الضعف والتمكين ، وقد ابتدأت الثورات العربية بنموذجين من تونس ومصر وهذه لمحة ربانية عجيبة لأنه يمكن لنا أن نرجع جميع الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لأحد هذين النظامين في طريقة الحكم ومن ثم يمكن لنا أن نتعامل معها وفق النموذج المناسب .
فالبلدان العربية إما مغلقة أو مفتوحة  فتونس مثلا بلد منغلق لا يسمح النظام فيه لأي نوع من الحريات السياسية أو الإعلامية إلا ما كان شكليا ولا يضر وهو عين النظام الحاكم في سوريا و ليبيا والسعودية والمغرب أما مصر فبلد منفتح لوجود هامش من الحريات السياسية والإعلامية تزاول فيه الأحزاب ووسائل الإعلام المختلفة أنشطتها بحسب المناخ السياسي والشعبي المتقلب بين المد والجزر وهذا ما ينطبق على اليمن والكويت والبحرين والأردن والسودان والصومال والجزائر ، وهنا يكمن الفرق بين الفريقين فتونس كبلد منغلق لم تحظى فيه الثورة منذ إنطلاقتها بأي خدمات إعلامية إلا ما نقل على الشبكة العنكبوتية وتلقفته القنوات الفضائية واستمر هذا الوضع حتى اليومين الأخيرين عندما تفجرت الأوضاع في العاصمة ، وبإستثناء النقابات العمالية التي شاركت بالإضرابات في الأسبوع الأخير لم تكن هناك مشاركة فاعلة من الأحزاب السياسية وهذا ما جعل بن علي يدرك أنه أمام جماهير غاضبة بلا قيادة يستطيع شرائها أو التفاوض معها . ولذا إتجه إلى تقديم سيل من التنازلات والإصلاحات والعطاءات السخية من جهة وإرهاب المتظاهرين من جهة أخرى بالقمع والقنص والمظاهرات المضادة ، وهذه الصورة الواضحة في أذهان التونسيين عن هذا النظام المغلق الذي لا يخضع للضغوطات الدولية أو الإحتجاجات السلمية هي التي جعلتهم يستمرون في التصعيد تدريجيا حتى رفعوا شعار [ الشعب يريد إسقاط النظام ] لأنهم أيقنوا أنهم في معركة بقاء مع بن علي ونظامه وأن أي تراجع من جانبهم في وتيرة الصراع ستكون على حساب أرواحهم !
وقد علمتنا الأحداث الأخيرة أن الثقل الأساسي إنما يكون على الشباب الذين يمثلون الصاعق الذي يفجر طاقات الشعب ويلهمه الشجاعة والجرأة على النظام فكسر حاجز الخوف والرهبة هو النقطة الأهم في بداية الثورة ، ويجب كذلك أن يكون هناك نموذج محلي يقتدى به وقد شاهدنا ذلك في مدينة سيدي بوزيد في تونس ومدينة السويس في مصر فقد كان لهاتين المدينتين سبق الفضل في كسر حاجز الرهبة من الأجهزة الأمنية .
إذن فالأنظمة المغلقة لا يصلح معها الإكتفاء بالإعتصامات أو الإحتجاجات السلمية ومن ثم الإعتماد على وتر الضغوطات الخارجية من قبل المجتمع الدولي أو الضغوطات الداخلية من خلال الأحزاب لإزاحة النظام - ولذلك لم نشاهد في تونس ذاك الحراك السياسي الدولي والحزبي الذي رافق الثورة المصرية وأثر في مشهدها الأخير ، وإنما الوصفة الصحيحة هنا هي التصعيد التدريجي والمكثف الذي لا يخلو من العنف إن لزم الأمر حتى يتم تهديد الأمن الشخصي للحاكم من قبل الحشود الغاضبة أي أن التكتيك المناسب هنا هو ذاك الذي لا يدع للخصم فرصة لإلتقاط أنفاسه وهو ما حدث مع بن علي يوما بعد يوم فلم يجد نفسه إلا وهو في جدة .
والنموذج التونسي هو الذي ينطبق على الحالة الليبية الآن والتي تبشر بكل خير إن استمرت على نفس الوتيرة فقد شمر شباب بنغازي عن سواعدهم وكسروا حاجز الرهبة الذي زرعته أجهزة القذافي الدموية في نفوس أهل ليبيا على مدى الأربعين سنة الماضية ، إلا أننا يجب أن ننتبه إلى أننا نخوض معارك تراكمية في الخبرات والأساليب فكما أننا نحاول أن نطور قدراتنا وندرس أخطائنا السابقة فهم بالتأكيد يفعلون أفضل من ذلك ولكن الله مولانا ولا مولى لهم ، وقد حصل توافق فكري استراتيجي تم تعميمه مؤخرا على كافة الأنظمة المفتوحة والمغلقة في أن الحل الأمثل في التصدي لهذه الثورات يكمن في خلق ثورات مضادة لها  مطعمة بعناصر أمنية بقصد إشغالها عن التوسع وهذا ما نشاهده الآن في جميع الدول العربية المضطربة وهذا دليل إفلاس القوم لأنه كما قال أحد شباب ميدان التحرير : ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة !! ولأن من كسر حاجز الخوف من المدرعات والرصاص المطاطي والقناصة فمن باب أولى أنه لن يخشى ولن يقف عند مثل هذه البلطجة التي يجب على الثوار الإلتفاف عليها أو مشاغلتها بأعداد ثانوية والإستمرار في الثورة وتصعيدها .
وبالعودة إلى الحالة الليبية أقول أن سيطرة شباب الثورة على المراكز الأمنية وإحراقها وطرد ومطاردة عناصر اللجان الثورية العميلة والتي تمثل الحزب الحاكم في ليبيا سيدفع بالمزيد من المتظاهرين إلى الشوارع حتى نصل إلى ما يقرب من الحالة المليونية كما حدث في مصر ويكفي أن يحدث ذلك بشكل كامل في عدة مدن حتى تتشجع المدن الأخرى وتتحرك هي بدورها فليبيا بلد مترامي الأطراف ومدن الشرق بنغازي وغيرها تبعد عن العاصمة مئات الكيلومترات ومن غير المعقول أن تسافر هذه الأعداد إلى العاصمة للقيام بالثورة ولكن من المنطقي جدا أن تقدم مثالا تحتذي به الجماهير الليبية في طرابلس وما حولها لأن الدوافع مشتركة والصاعق قد يوجد في مكان ويفتقد في آخر وعندما تنجح الثورة في الوصول إلى العاصمة يجب أن تتجه المظاهرات نحو مراكز الحكم وأركان النظام كالوزارات الحكومية ومقار اللجان الشعبية ومبنى التلفزيون وغيره ومن ثم التهديد بالتوجه نحو القصور الرئاسية وفي هذه المرحلة تكون الأجهزة الأمنية قد إنهارت بالكامل ويبدأ الجيش بالدخول على الخط و هنا يجب أن يدفع الجيش إلى حسم موقفه تجاه الثورة وذلك بالتصعيد المتواصل بإتجاه مراكز الحكم والذي سيجعل الجيش بين خيارين إما أن يطلق النار على الشعب وإما أن يقف مع الثورة أو على الحياد ، ودفع الأمور بهذه الطريقة ضروري جدا حتى لا يستخدم الجيش في تخدير الثورة كما كان مخططا في الثورة المصرية .
والحديث هنا عن الخطوط العريضة للتحرك ضد الأنظمة المغلقة ولكن يبقى لكل بلد خصوصيته وأهل مكة أدرى بشعابها ، وفي اعتقادي أن فهم شخصية الحاكم في الدولة المغلقة وبرمجة التحركات للتأثير في قراراته يلعب دورا كبيرا في الأحداث فالحكام أجناس متنوعة منهم الجبان ومنهم العنيد ومنهم العاقل الذي قد يتخلى عن منصبه من أول بوادر الثورة . أما القذافي فالبشارة به كبيرة وأظن أنه هو أكثر من سيساعدنا في إسقاط نظامه !! فهو من فئة المهووسين والمعجبين بأرائهم أمثال هتلر وصدام الذين لا يجرأ من حولهم من الخبراء والمستشارين على مخالفتهم فيما يرونه ولو كان خطأ محضا ! وقد بدى تخبط القذافي واضحا بعد إستعانته بمليشيا القبعات الصفر ! والمرتزقة الأفارقة واستخدامه المدفعية ضد المتظاهرين وكأنه في ساحة حرب !! وهذا ما جعل الشعب يتخندق أكثر مع شباب الثورة ويبدأ بتنظيم اللجان الشعبية لملأ الفراغ الأمني بعد هروب عناصر الأمن وانظمام آخرين من الشرطة والجيش إلى صفوف الثوار وكما قلت لكم القذافي هو أكثر من سيساهم في إنجاح هذه الثورة فقد كانت الفكاهة والبلاهة تلازمة طوال حياته ولا أظنها ستفارقه عند النهاية.
أما النموذج المصري فهو الذي ينطبق على الحالة اليمنية الآن فالإعلام مفتوح والأحزاب موجودة وفعالة إلى حد ما والشارع اليمني شارع حي وواعي وقد أثبت نفسه حتى الآن إلا أن الحالة اليمنية تحتاج إلى مثال داخلي يحتذى به كمدينتي سيدي بوزيد والسويس لتدفع وتشجع بقية المدن على المضي والإستمرار في الثورة وهذه مسؤولية شباب اليمن  وحتى لا أبخس أحد حقه فالأضواء بدأت تسلط على منطقة "الشيخ عثمان " بعد تكرر المواجهات فيها  وللعلم فإن الأحزاب السياسية أيضا ومنها حركة الإصلاح - الإخوان المسلمين - تنتظر أن تميل الكفة لصالح الثوار لتلقي بكامل ثقلها في الساحة كما فعلت الأحزاب في مصر ، أما الرئيس اليمني فهو ذو شخصية مهزوزة يتصنع الثبات وعنده شعور عميق بأن الجماهير اليمنية ستبطش به ولذلك بدأ مشوار التنازلات قبل أن تبدأ الثورة نفسها ! وقد يكفي مع هذه الشخصية أن يشعر بأن هناك مؤامرات تدور حوله ليترك كل شيء ويهرب . . ولعل تواصل الثوار مع قادة الجيش و الأحزاب وأمراء القبائل يساعده في تأكيد هذا الشعور . 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق