قراءة نقدية في رائعة هادي زاهر رواية (السرِّ الدَّفين)
إنَّهُ الواقع الفلسطيني،بمعاناتهِ وآلامهِ،بسقوطهِ وصمودهِ،بآماله وإحباطاته،فعبر بطلة رواية(السرّ الدفين)وهي “جميلة” المرأة القروية المُكافحة،والتي تنزلق في متاهات الرذيلة والعمالة،رغم كونها رمزاً للفضيلة والنضال،فهي تُغتصب رغم إرادتها على يد عميل للمخابرات يوقع بها من حيث لا تدري..إنها الكرامة المُداسة،والأرض المُغتصبة المُباحة المُقسَّمة!!عبر (جميلة) تتجلى المأساة بكلِّ أبعادها الوطنية والإنسانية.فهي القضيّة،وهي المُغتَصَبَة،وهي الخيانة،وهي الضعيفة المُستسلمة لنزواتها وقدرها،وهي المسكينة المجروحة في أعماقها!!وهي الأُنثى التي تبحث عن مُتعة مُحرَّمة،لتروي شهوتها وشبقها!!
ينتقي الكاتبُ حقبةً مُظلمةً من تاريخ شعبنا،وهي الخمسينات من القرن الماضي،إتَّسَمت بالهزيمة والمُلاحقة والإذلال،رواية(السرّ الدفين) هي مأساةُ شعبٍ بكاملهِ من الخليج إلى المُحيط،فجميلة شاهدة على العصر،تتقمص القضية بكلِّ أبعادها المحليّة والإقليميِّة.يغتصبها المُستعمر،وتعشق مُستعمرها،إنَّها استساغة الإهانة والذلّ والعار،مَجبولة بالفلسفة البرغماتية والحاجة الآنيّة.إنّها مرآة لواقع الأُمة..لقد عاشت جميلة حياتها وضميرها مُنكّس،رأسها مُنكّس،معنوياتها مُنكّسة…اقتلع الألم إحساسها بالجمال،إنّها حياة تعيسة تحياها جميلة بكلِّ أعبائِها..يجمحُ خيال الكاتبُ بين المُفارقات والتضادُديّة،فيضفي لوناً من الخيال على هذه الرواية رغم واقعيتها المؤلمة،فالشخصيات والعيّنات المُنتقاة،كالمختار وراعي العجَّال،والبيئة والعمالة والخيانة هي حقيقة وواقع اجتماعي زمني معروف.بينما نجد تسلسل الأحداث بالنّسبة لجميلة يلعب به الخيالُ كثيراً،فنجد الكاتب يصف جميلة عندما تقابل سامي في المغارة في المرَّة الثانية بالخائفة..تعتريها أحاسيس التقزّز والاشمئزاز،تنعته بهمسٍ مسموع ـ كلب ابن كلب ،واطي، حقير، سافل،حيوان..الخ،ولكنها تستسلم له بعد مُداعبتها قليلاً،وتُجاريه راغبة حتى تروي نهمها وجوعها الجنسي،وهي تشعر بنفسها تطلب الجنس وتريده بعدما استطاع إثارتها وإيقاظ شهوتها وشبقها..ومن جهة معاكسة فهي المرأة المُخلصة المُحبة لزوجها عدنان،الثائر المكافح الشريف الذي يحيا بكرامة واستقامة..وهما يعيشان حياة مليئة من الناحية العاطفيّة والجنسيّة.
هذا شيء غريب حقاً!!على كلِّ حال،القضيَّة مُتداخلة..لا تخلو من الصور الإبداعيَّة في الوصف،وتنقل القارئ إلى أجواء القصة ليعيش معها لحظة بلحظة،بتلهف وترقب.ونجد في بعض الفصول شرحٍ مُستفيض في أمورٍ صغيرة وتافهة،حبذا لو أُختصرت الإفاضة فيها.
في هذه الرواية نلاحظ قوة الكاتب السرديّة،فحبكته وتمكنه اللغوي،يعطيه الأرضيّة الواسعة لنقل صور من المعاناة الشديدة القاسية في حياة لا ترحم الضعفاء المحتاجين،فظروف المرحلة الصعبة والمأساوية يقدمها الكاتب من خلال منظوره الإنساني،المُتفهّم والمُتعاطف مع أبطال الرواية وشخصياتها ونجد المسحة الرومانسيّة حتى في أعقد الحالات وأغربها.السرّ الدفين هي لوحة حيَّة لحياةٍ وعاداتٍ اجتماعيّة لزمن معلوم.حرص الكاتب على توفير قدراً من الموضوعيّة،فبالرغم من وضوح وجهة نظره وموقفه،فقد بدا مُتعاطفاً مع المُغاير والمُعاكس أيضاً.نعم إنّها لوحة تعرض لنا عدّة جوانب تشمل حياة هؤلاءِ المواطنين الضعفاء المهزومين والمساكين أمام إرادة دولةٍ وآلياتها ومُخابراتها..إنّها مزيج من الرؤية الواقعيّة المدعوم بالأفكار الرومانسية،وقد نلاحظ من خلال تفاعل الأحداث إننا أمام كفاحٍ للإنسان الضعيف في بؤسه وشقائه،إنّه مضمونٌ إنساني يتسم بدقة الملاحظة لدقائق التفصيلات الخارجية والداخلية في الرواية.
الكاتب في هذه الرواية لا يكتفي بما تكشف عنه الأحداث،من إدانة للواقع،وتعاطف مع جميلة،بل يتفاعل مع عيّناته،طوراً متعاطفاً،وأخرى نابذاً محولاً مساره إلى جهة أخرى،إنّه يبرّر عطفه على شخصياته المختارة بدقة وعناية ويعتبرها، نماذج لضحايا الظلم الاجتماعي والسياسي العام!!وليس من شك أن هادي استطاع أن يُصوّر المجتمع وقضاياه في تلك الحقبة،بصورة واضحة،وأن يقدم نماذجه من قطاعات المجتمع المظلومة التي تعيش همومها ومتاعبها،وأيضاً أفراحها إذا وجدت.
المضمون الذي تطرحه القصة، هو مضمون اجتماعي يبحث المُشاركة في التعايش بين العرب واليهود،ومظاهرها الإيجابيّة والسلبيّة،ومن جهة أخرى القهر والمعاناة اليوميّة للمواطن العربي بعد قيام الدولة،ونراه يستخدم لذلك شخصيات عادية تظهر فيها حركة المجتمع وصبغته البيئية،إنّ وعي الكاتب وإدراكه لقضايا الواقع المعاش،والمحن التي مرّت بأمته وشعبه،إنصهر ليمتزج في هذه الصورة غير المألوفة من الإدراك والعاطفة في رواية(السرّ الدفين)فتناولت قضايا اجتماعية وصراعات حضارية بين الواقع والخيال فالهموم الخاصة تمتزج بالمشاكل العامة،والمفهوم الواقعي والطبقي يخضع للرومانسية،في مراحل الضعف والعطف.ونرى الكاتب يُشرك القدر في أغلب الأحداث،لتصبح للمأساة أبعادها القدريّة إلى جانب أبعادها الاجتماعيّة الأخلاقيّة،والسياسيّة..وبهذا ينطق الكاتب على لسان المحقق سامي معترفاً لابنه غير الشرعي (سامي)من نزوته وخطيئته وعلاقته المحرَّمة مع جميلة التي تناقض وتنافي كل الاحتمالات أنه ابن حرام ..فهل ستكشف له أمه جميلة السر الدفين؟!وهل سيقبل سامي الابن المناضل الذي يفخر ويعتز بوالده الشرعي الشهيد عدنان الذي عاش حراً ومات شهيداً ، أن يحيا بهذا الواقع المشوّه والتسليم به …سواء على المستوى الاجتماعي أو الإنساني !! هذا ما يتركه الكاتب لك أيّها القارئ لتستنتج نهاية أو ربما بداية لواقعٍ أغرب من الخيال !!
تحيّة تقدير للكاتب هادي زاهر وهذه قفزة جديدة ونوعيّة أخرى،في هذا الصرح الأدبي الرفيع.ولا أكتمك سرّاً يا صديقي،أني قرأت روايتك هذه وتابعتها بترقب وشغف حتى النهاية..تقبّل ملاحظاتي وتوضيحاتي لما فيها من نقد بناء،وفقك الله والى الأم